وقفاتٌ مع أحداث فلسطين          

الخطبة الأولى

 الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه حمداً لا يُحَد، وأشكره شكراً لا يُعَد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الأبيض والأحمر والأسود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان وجدّ واجتهد، أما بعد:

   عباد الله! اتقوا الله تعالى، فتقوى الله عروة ما لها انفصام، ونور تستضيء به القلوب والأفهام.

أيها المسلمون! يمر المسلمون في هذه الأيام ببقاع مختلفة من العالم بمحن قاسية، وفتن عارمة قَلَّ لها نظير في التاريخ، حروب طاحنة تأكل الأخضر واليابس، قتل وتشريد، وإبعاد وطرد، تجويع وهدم للمساكن، انتهاك للأعراض وتيتيم للأطفال، قتل جماعي وحرق وتخريب، وصورة هذا واضحة بينة وضوح الشمس في رابعة النهار فيما يفعله اليهود في فلسطين مما لا يبقى معه بيت في العالم لا يرى، ولا يشاهد تلك المآسي العميقة بكل كبر وطغيان، وبكل غرور وعنجهية، وبكل تبلد من قوى العالم، أشجعهم من يدلي بشجب أو تنديد لا يتجاوز حناجرهم.

أيها المسلمون! هذه الأحداث المؤلمة، والجراحات العميقة تجعلنا نتدبر المواقف والعبر غير مكتفين بالأنين من الجراحات، وتجاوب الشجب والاستنكار، فصدى تلك الآلام والصراخات يجب أن ينقلب إلى صور عملية، ومواقف إيجابية بنفوس مؤمنة واثقة.

   إن هذه الأحداث المأساوية التي يمر بها المسلمون في فلسطين تبعث في النفس وقفات تدبُّر وهمسات اتعاظ نسردها في الوقفات الآتية؛ لتجيب على تساؤل كثير من المسلمين إزاء هذه الأحداث.

   الوقفة الأولى: إن من سنن الله تعالى في عباده على هذه الأرض أن جعل الصراع بين الحق والباطل صراعاً دائماً، يغلب هذا تارة، وينهزم هذا تارة بحسب عوامل الضعف والقوة لدى أصحاب الحق، وقد أخذ الشيطان العهد على نفسه ليغوين بني آدم، وهو قائد الباطل، وجنوده ما أكثرهم على اختلاف مللهم ومذاهبهم، ولكن أصحاب الحق إذا تمسكوا به، وعضوا عليه بالنواجذ، فلا يمكن للشيطان وأعوانه أن ينتصروا؛ لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وما يجري من صراع في العالم بين الحق والباطل جرياً على سنة الله تعالى، وما تغلب الباطل يوماً إلا ضعفاًَ في أصحاب الحق، لا قوةً في الباطل وأهله.

  الوقفة الثانية: إن أعداء الإسلام ملة واحدة ضد دين الله تعالى، مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم وأقاليمهم وسياساتهم، ولكنهم يتفاوتون في شراستهم وعداواتهم، وإن من ألد الأعداء وأكثرهم حنقاً وغيظاً اليهود إخوان القردة والخنازير (لَتجِدَنَّ أشدَّ الناس عداوةً لِلَّذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). (المائدة : 82).

   وواقعهم العملي المعاصر وتاريخهم الأسود شاهد واضح، ودليل قاطع، وأبناء يعرب لا زال منهم من يأمن اليهود، ويعاملهم، ويحسن الظن بهم، حتى امتدت أيدي اليهود إلى زعزعة الأمة في عقائدها، وتشكيكها في مبادئها، وتدميرها في أخلاقها، ولقد بلغ تدميرهم وتدبيرهم مبلغاً مخيفاً بأن نبت في بني جلدة المسلمين من يرفض الإسلام ديناً، وينكره منهاجاً تأثراً بهم.

   لقد اختل إيمانهم بربهم واهتزت عقائدم بدينهم، فيهم ملاحدة يعتقدون أنهم أعلم من الله بشؤون خلقه، وأنهم أعدل منه في قسم رزقه.

  ولقد كان من هذه النابتة مفكرون وأدباء عبثوا بالأسس الدينية والقيم الأخلاقية، والمقررات التاريخية، سخروا الأقلام والإعلام والأفلام لتقويض دعائم الحياة الصالحة والأخلاق الفاضلة، وأورثوا أرضاً فكرية لا معروف فيها ولا منكر، وإنما هي انتهازية وتحلل وجاهلية.

   الوقفة الثالثة: إننا نجافي الطريق، ونخطىء الجادة، ونضل السبيل عندما نعتقد نصح الكفار وإخلاصهم لنا، أو لقضايانا، فلقد علمنا القرآن الكريم عقيدة راسخة أن الكفر والضلال ورؤوسهما اليهود والنصارى لن يألوا جهداً في سحق المسلمين وإيذائهم وقتلهم، ولن يرضوا منه إلا التبعية والانهزام، والذلة والهوان، والتأخر والتقهقر، ولن يتركوا وسيلة يستطيعونها في إضعاف المسلمين إلا بذلوها فكرية أو تربوية، اجتماعية أو سياسية، عسكرية أو حربية، قال تعالى مقرراً هذا المعنى: (ولا يزالُون يُقاتِلونكُم حتَّى يردُّوكُم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة: 217). وقال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهودُ ولاَ النَّصارى حتى تتَّبِع مِلَّتهُم) (البقرة: 120) فهل يعي المخدوعون والمغفلون من أبناء المسلمين هذه الحقيقة القرآنية؟ أما المتأثرون بهم فقد طمس على قلوبهم، فلا يزالون يرون فيهم القدوة والأسوة!

الوقفة الرابعة: لقد قطعت كثير من الشعوب الإسلامية أشواطاً من اللهاث وراء الأعداء، أحسنت الظن بهم، وحسبت سرابهم ماءً، حتى إذا جاءته لم تجده شيئاً، بل وجدت سبُعاً فاغراً فاه، ومجرماً آثماً شاهراً سيفه يريد ابتلاعها وهلاكها، خذوا هذا المثال من أمثلة السراب: لا يزال بعض المثقفين والمفكرين يربط ضعف الأمة واضطراب أحوالها بقضية المرأة ومسألة الحجاب، لقد قالوا: - وبئس ما قالوا- إن القوة والمنعة والعلو في العلم، وشؤون الاجتماع لا ينسجم، ولا يتناسب مع فرض الحجاب ومنع الاختلاط. نعم لقد زعموا أن تفسخ المرأة وخلاعتها هو الطريق إلى التقدم والقوة، وهو مظهر العزة ، لقد جعلوا من تبرج الجاهلية سبيلاً إلى المعرفة الحقة والعلم النافع. أما السراب فها هي معظم الشوارع والأسواق في كثير من بلدان بني الإسلام- حاشا هذه البلاد- قد فاضت بمظاهر التبرج والسفور، ودخلت المرأة فيها كل نادٍ ، واختلطت بثعالب الرجال وسباعها، فُتنت وفَتنت، وأخذت زينتها وأصباغها، فأي تقدم جنوا؟ وأي قوة حققوا؟ لقد أشبهوا أعداءهم في المظاهر والقشور! أجسام بادية وأندية بالفسق عامرة! ما زادهم ذلك إلا ضياعاً ومجوناً، وقتلاً للأوقات وهتكاًَ للأعراض!

  ألم يسألوا الفتيات المسلمات المتأدبات المحتشمات؟ هل منعت الحشمة، أو صد الحجاب من تحصيل علم أو إنجاز عمل مناسب يتحقق به غاية شريفة من غير طريق للفتنة والإثارة ؟ هل أثقلهن الحجاب عن ممارسة أي نشاط اجتماعي مشروع يراد من ورائه إحقاق حق، أو إبطال باطل، أو معونة ضعيف، أو إسداء معروف، أو نشر بر وإحسان، إن المؤمنات الطاهرات الحافظات المحفوظات يمارسن مسؤولياتهن البيتية والاجتماعية أصنافاً وألواناً لا تضاهيهن تلك المسكينة التي تنفق ساعاتها وأيامها بالنظر إلى عطفيها، وتتعهد زينتها وأصباغها وبهرجها، ولقد علم المؤمنون والعقلاء أنه لا توجد علاقة بين العمل والقوة والخير والتقدم، وبين التبرج والتعطر والميل والإمالة، فلم اتِّباعُ يهود وغيرهم من أعداء الإسلام والمسلمين؟!

الوقفة الخامسة: إن الأمة المسلمة وهي تواجه عدواً شرساً وتكالباً متكاتفاً من أعداء كثير في هذه الأيام يجب أن يشعروا جميعاً في أي بقعة من الأرض بعظم القضية، وثقل الواجب، وكبر المسؤولية، فليست المسؤولية مسؤولية فلسطين، أو الفلسطينيين فحسب، لا شك أنهم في خضم البلاء يصطلون بالنيران المسلطة من اليهود وحلفائهم وأعوانهم، ولكن المسألة أكبر، ففيها مقدسات للمسلمين، وأرض المعراج، وحصن من حصون المسلمين، وليس المراد من أطماع اليهود هم فحسب، بل من النيل إلى الفرات هكذا زعموا.

   فالقضية أعمق، والخطر عظيم يحتم على كل فرد ومجتمع وأمة مسلمة التفكير الجاد في معرفة المخرج من تلك القضية أولاً، ثم في فعل ما يجب ثانياً.

   فأما المخرج الذي يجب أن يشعر به كل مسلم ومسلمة أنه الدين، ولا شيء غير الدين، إنه الدين الذي يكسب الأمة تميزاً يمنعها من الذوبان والتميع، يحصنها مما يراد بها، ويحفظها مما يخطط أعداؤها، إنه العقيدة التي تجمع كلمتها، وتحصر عداوتها في أعدائها.

 الأمة في عقيدتها تمثل الجسد الواحد والبنيان المرصوص، تقرر العقيدة أن الركون إلى الذين ظلموا ليس له نتيجة إلا أن يسام المسلمون سوء العذاب تمتهن الكرامة، وتداس المهابة، وتسترخص الدماء، ويستباح الحمى، وتنتقص الديار، وتستنزف الأموال (ولا تركنوا إلى الَّذين ظلموا فتمسَّكم النَّار وما لكم من دون اللَّه من أولياء ثم لا تُنصرون) (هود: 113) (إنَّهُمْ إن يظهروا عليكُم يرجُمُوكم أو يُعيدُوكم في مِلَّتهِم ولن تُفلِحوا إذاً أبداً) (الكهف: 20) والعقيدة تقرر أن الأعداء مستمرون في القتال والإيذاء سراً وجهاراً وقديماً وحديثاً في صفاقة ظاهرة، أو خطة ماكرة في حروب باردة أو معارك ملتهبة، ليس لهم غاية إلا أن يردوكم عن دينكم إن استطاعوا (ولا يزالُون يُقاتِلُونكم حتَّى يرُدُّوكُم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة: 217) فليعِ كل مسلم ومسلمة هذه الحقائق القرآنية التي تمثل المخرج من قضايا الأمة المؤلمة، سلم الله الأمة من كل عداء وأذى، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه العظيم، وسنة نبيه الكريم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



بحث عن بحث