الخطبة الثانية

   الحمد لله وكفى، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على نهجهم سار واقتفى.

أما بعد:

أيها المسلمون! ولما دخل الإخوة على عزيز مصر، وقعت أحداث مثيرة، لم يكونوا يتوقعونها، ولم يحسبوا لها حساباً، بل فوجئوا بها مفاجأة مدهشة (ولما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) [يوسف 69] وأحسن استقبالهم في زيارتهم الثانية له، لا سيما أن معهم أخاه الصغير الذي طلب إحضاره، تبدأ آيات هذا المشهد بقول الله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) ، بدأ يوسف بالمعاملة الخاصة مع أخيه فور استقباله له، وفعل ذلك ليصارحه بالحقيقة، وليقول له: إنني أنا أخوك، أنا يوسف الذي فعل إخوتك بي ما فعلوا قبل سنوات، وها قد من الله عليَّ بأن أكرمني، وجعلني حاكم مصر وإخوانك لا يعلمون أنني يوسف الذي ألقوه في غيابة الجب وهو صغير، ليتخلصوا منه.. عرف الأخ الصغير أن عزيز مصر الذي أمامه هو أخوه المفقود يوسف، فكتم هذا السر عن باقي إخوته، واحتفظ به لنفسه، وأمر يوسف غلمانه بتجهيز إخوته الأحد عشر، ووضع حمل حبوب على بعير كل منهم.

عباد الله!

  وذهب يوسف عليه السلام إلى رحل أخيه الصغير، ودون أن يراه أحد من الغلمان أو الإخوة، فتح الرحل ووضع (السقاية) فيه، بين الحبوب، وأغلق الرحل وأعاده كما كان!! قال تعالى: (فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه) [يوسف: 70] وعندما همَّ الإخوة بالذهاب، وقد حمَّلوا جمالهم وتأهبوا للعودة إلى أهلهم، فكر غلمان العزيز: أين السقاية؟؟ إنها غير موجودة!!، وفتشوا عنها فلم يعثروا عليها، لقد سُرقت إذن! فنادى الغلمان الموظفون على الركب المغادرين، وفاجؤوهم بالاتهام: (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون) [يوسف: 70].

أيها المسلمون!

   فوجىء الإخوة الأبرياء بهذا الاتهام الصريح، والتفتوا نحو غلمان العزيز: (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون) (يوسف: 71] فأجابهم الغلمان قائلين: (نفقد صواع الملك) التي كِلْنا لكم بها الحبوب، والتي سرقتموها وأخذتموها، وتمضي الأحداث المثيرة بالتسلسل والتدرج، فيبدأ الغلمان بالترغيب والترهيب والحث على تسليم المسروق، حيث أعلنوا عن جائزة ثمينة لمن يعيد صواع الملك: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) [يوسف: 72] ، ورغم أن الجائزة ثمينة، لكن الإخوة لم يقبلوها، لا لشيء إلا أنهم ليسوا سارقين منهم، يوقنون أنهم أبرياء من التهمة، ولهذا ردوا على الغلمان في الحوار المثير (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) (يوسف: 73] حلفوا بالله أنهم لم يسرقوا- وهكذا عباد الله- لم ينفع أسلوب الحث والترغيب مع القوم، ولهذا لجأ الغلمان الفتيان إلى الأسلوب الآخر وهو أسلوب التفتيش والمحاكمة، وأوعز يوسف إلى فتيانه ليسألوا الرجال: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) [يوسف: 74] فأجاب القوم قائلين: (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين) [يوسف: 75] أي: عقوبة السارق في شريعة أبينا يعقوب النبي أن يأخذ صاحب المتاع المسروق الشخص الذي سرق، ليكون عبداً رقيقاً له مقابل ما سرق، وما كان الرجال يتوقعون أن يكون صواع الملك في رحل أخيهم الصغير! وأخيراً: وقعت المفاجأة المذهلة، التي فاجأت القوم فأذهلتهم وصدمتهم، فها هو يوسف يفتش متاع أخيه الصغير وكان بدأ بتفتيش أمتعتهم قبل متاع أخيه، وبينما هو يقلب المتاع إذا به يخرج السقاية من المتاع، إذن فهذا الأخ الصغير سارق، فهو الذي سرق السقاية، فوجىء الإخوة بما حصل فها هو أخوهم الذي تعهدوا لأبيهم بحفظه، وحلفوا له الأيمان أن يعيدوه سالماً، ها هو يضبط متلبساً بالسرقة... والآن سينفذ فيه الحكم الذي ارتضوا تنفيذه على السارق، وسيعاقب وفق شريعة أبيه، أي أنه سيؤخذ الآن عبداً للعزيز، ولن يعود معهم إلى أبيهم!

عباد الله! وتترك الآيات الإخوة وسط الدهشة والصدمة والانفعال لتقدم لنا تقريراً عن حكمة الله من تقدير هذه الحادثة المثيرة: (كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف: 76] إن الله هو الذي كاد ليوسف عليه السلام، وأرشده إلى هذا التدبير الحكيم ليتم قدر الله في النهاية، وقد أثنى الله على حكم يوسف وتصرفه وعلمه، وأخبر أن الله رفعه عنده درجات في العلم والفضل والمنزلة (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف: 76] وللحديث بقية.

   وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه بقوله تعالى: (إنَّ الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).



بحث عن بحث