الوقفة الأولى :

شرح مفردات هذا الباب:

(يدعون): يعبدون.

(يبتغون) : يطلبون.

(الوسيلة): التوصل إلى الشيء برغبة .

(براء): متبرئ مما يعبدون من الأصنام والأوثان .

(فطرني): خلقني وهو الله تعالى.

(يهدين): يبصرني طريق الحق فأسلكه .

(الأنداد) : الأمثال والنظراء والأشباه .

الوقفة الثانية:

هذا الباب هو نتيجة للأبواب السابقة التي ذكرها المصنف، حيث ذكر في الأبواب السابقة وجوب التوحيد وبيان حقيقته وأنه الحق الأعظم على جميع العبيد، وفضل هذا التوحيد، وآثاره العظيمة والحميدة، وأن : الموحد مآله إلى الجنة، كما ذكر الخوف من ضد التوحيد، ثم ذكر أهمية الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ثم ذكر في هذا الباب تفسير التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا الباب هو عبارة عن نقلة للأبواب الأخرى القادمة، حيث سيفسر التوحيد تفسيراً دقيقاً، ثم سيذكر في الأبواب الأخرى التي بعده شيئاً من مقتضيات التوحيد، وشيئاً من مناقضات التوحيد، ففي هذا الباب فسر التوحيد تفسيراً إجمالياً، ثم يفسر مقتضاه تفسيراً تفصيلياً في الأبواب التي تليه .

الوقفة الثالثة:

إن على الإنسان أن يعبد من بيده الأمر والنهي وهو الله سبحانه وتعالى، فلذلك يجب على الإنسان أن يسخر عبادته لـه فلا يعبد من كان ناقصاً، وكل المخلوقين فيهم نقص، وهم محتاجون إلى الله عز وجل، حتى ولو كانوا من أفاضل المخلوقين كالملائكة والأنبياء وصالحي البشر فهم بحاجة إلى الله سبحانه وتعالى .

ولذا قال سبحانه : ]أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ )   فالمعبودون هنا هم من الذين يُعبدون الله سبحانه يرجون رحمته ويخافون عذابه، مثل الملائكة وصالحي الجن ومثل عيسى عليه السلام، فهؤلاء هم ممن يعبد الله سبحانه وتعالى، وأولئك المشركون يعبدون هؤلاء الذين هم من عباد الله عز وجل فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وهم يرجون رحمة الله ويخافون عذابه . 

الوقفة الرابعة :

التوحيد لله عز وجل لابد لـه من ركنين أساسيين :

الأول: هو عبادة الله جل وعلا وحده لأنه هو الخالق الرازق المتصرف بشؤون الكون كله.

الثاني: البراءة من الشرك وأهله مهما كان هذا المعبود فلابد أن يتبرأ الإنسان منه فلا يعبده مع الله عز وجل .

وهذا معنى لا إله إلا الله، وهو العامل الأساس والمشترك الكبير بين دعوات الأنبياء والرسل عليهم السلام .

ولذا قال الخليل عليه السلام وهو الذي أتى بالحنيفية السمحة: (إنني براء) يعني بريء وتارك ومبتعد لما تعبدون (إلا الذي خلقني) فهو الذي بيده تصريف الأمور كلها، وبناء على هذا فقد فسر لنا التوحيد من خلال هذه الآية، فإنه لابد من عبادة الله تعالى ونفي عبادة ما سواه جل وعلا .

الوقفة الخامسة :

إن التحليل والتحريم مصدره من عند الله عز وجل ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله عز وجل، فلا يجوز لأحدٍ بأي حال من الأحوال أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا أن يكون مبنياً على دليل من الكتاب والسنة صادراً عن الله عز وجل أو عن رسولهصلى الله عليه وسلم، فمن فعل شيئاً غير ذلك كأن حَرَّم حلالاً أو أحل حراماً بدون دليل فقد شابه اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى اتخذوا علماءهم أرباباً مع أن اليهود والنصارى يقولون: نحن لا نعبدهم، لكن الله سبحانه وتعالى، ذكر هنا أنهم اتخذوهم أرباباً، والرب: هو المشرع الذي يجب أن يُعبَد، فهم اتخذوهم مشرعين يحلون ويحرمون فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله سبحانه وتعالى، فبناء على طاعتهم كانوا لهم أرباباً ويعني ذلك أنهم عبدوهم من دون الله .

وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً مع الله عز وجل؛ لأن النصارى يقولون: إن الله ثالث ثلاثة؛ الأب والابن والأم هي مريم عليها السلام، فجعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام رباً مع الله عز وجل، فهم بهذا ذكرهم الله عز وجل أنهم مشركون لأنه قال: ]وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)  فدل هذا على أن عملهم شرك بالله جل وعلا، وهو منافٍ للتوحيد، والتوحيد يُبنى على عبادة الله عز وجل، فاليهود والنصارى جمعوا بين تحريف توراتهم وإنجيلهم وبين تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، وهم أيضاً أشركوا مع الله؛ لأن النصارى قالوا: إن الله ثالث ثلاثة واليهود قالوا: عزير ابن الله، وكل هذا شرك مناف للتوحيد والعياذ بالله .

الوقفة السادسة :

إن محبة العبد لله يجب أن تكون أعلى المحاب، ثم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم محبة البشر من والد وولد وغيرهما.

وإذا كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يقدم عليها غيرها مثل ما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : والله إنك يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: يا رسول الله حتى من نفسي قال: الآن يا عمر)   .

فدل هذا على أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعلو المحاب كلها، وأعلى منها محبة الله عز وجل، ولذلك أورد المصنف - رحمه الله - هذه الآية : ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )  يبين أن من التوحيد أن تكون محبة الله جل وعلا أعلى المحاب، بل هي أعلى درجات العبودية لله جل وعلا، فإذا وصل المسلم إلى هذه الدرجة فقد وصل إلى أعلى درجات العبودية .

ومن خالف ذلك فقد ظلم نفسه واستحق العذاب الشديد، قال تعالى: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) ، فالذين ساووا محبة غير الله بمحبة الله عز وجل يستحقون العذاب الشديد كما أشار الله سبحانه وتعالى في هذه الآية .

وقد يصل الإنسان بحبه لإنسان آخر إلى درجة محبة الله عز وجل بحيث لو أمره بمعصية لفعل هذه المعصية، فهذا وصل إلى درجة حب الله الذي لـه الأمر والنهي . ومن هنا يجب أن يحذر العاشقون والمولعون بأحبابهم من الوصول إلى هذه الدرجة فيخلوا في توحيدهم لله عز وجل إخلالاً عظيماً قد يصل إلى الشرك والعياذ بالله.

الوقفة السابعة:

إن من حقق التوحيد وقال: لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله فقد حرم ماله ودمه، بمعنى أن الله تعالى حرم مال هذا الإنسان فلا يجوز الاعتداء عليه، وحرّم دمه كذلك فصار حراماً على الناس لا يجوز الاعتداء عليه بإزهاق الروح أو يجرح في عرضه أو في جسده.

وحسابه على الله لأن الله جل وعلا هو الذي يحاسب من قام بهذا التوحيد، ومن تلفظ به فيجازيه الجزاء الحسن بنيته واعتقاده وعمله. وإن أخل به فحسابه كذلك على الله تعالى.

وهذا يستلزم أيضاً الكفر بما يعبد من دون الله أياً كان هذا المعبود، فإذا قال المسلم: لا إله إلا الله عصم ماله ودمه، فدل على أن عصمة المال والدم في الدنيا للمسلم؛ لأنه قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان .

ولا يعني قولـه : "حرم ماله ودمه" أنه يجوز الاعتداء على غير المسلم؛ فلا يجوز الاعتداء عليه، وذلك لعصمة دمه وماله، وهذه العصمة بمعاهدة أو ذمة وغيرها مما هو مفصل في أبواب الفقه ، أما الحربي الذي أعلن الحرب على المسلمين فتحكمه قواعد الحرب في الإسلام. 



بحث عن بحث