الوقفة الأولى:

شرح مفردات الباب:

(الكنيسة) : مكان عبادة النصارى .

(الرجل الصالح أو العبد الصالح): هذا شك من راوي الحديث، وهذا يبين دقة نقل الرواة .

(طفق): أي جعل.

(خميصة): الكساء الذي لـه أعلام .

(اغتم): أي احتبس نَفَسُه صلى الله عليه وسلم عن الخروج.

(أبرأ) : أمتنع وأنكر.

(الخليل): هو المحبوب غاية المحبة ، والخلة: أعلى درجات المحبة.

الوقفة الثانية:

أورد المصنف هذا الباب ليبين أن من عبد الله مخلصاً لـه عند أحد القبور بأن صلى لله أو دعا الله أو ذبح لله عند قبر فإنه آثم إثماً كبيراً، فكيف بمن صرف شيئاً من العبادة لهذا القبر بأن دعا صاحب القبر أو ذبح لـه من دون الله فهو أشد وأقبح من الأول، إذ إن من صرف عبادةً لغير الله فقد أشرك شركاً أكبر مخرجاً من الإسلام، أما من عبد الله وحده عند قبر فلا يخرجه من الإسلام ولكنه آثم وفعله محرم وكبيرة من كبائر الذنوب لأنه وسيلة إلى الشرك والعياذ بالله.

ومن هنا يتبين لنا علاقة هذا الباب بسابقه، فالمصنف لما ذكر ما ينتج عنه الغلو في الصالحين وما يؤدي إليه من شرك بالله عز وجل، ناسب أن يبين هنا أن عبادة الأولياء والصالحين شرك أكبر تنافي التوحيد وإفراد الله بالعبادة، فالعبادة لله عند القبور وسيلة إلى الشرك ومن هنا جاءت العلاقة بين هذا الباب وكتاب التوحيد.

الوقفة الثالثة:

الحديث الأول الذي أورده المصنف يفيد أن بناء المساجد على القبور أمر لا يجوز ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف هؤلاء بأنهم شرار الخلق ، ولأنها من الوسائل المؤدية إلى الشرك بالله عز وجل ؛ وذلك بعبادة صاحب القبر، وتتأتى هذه الأمور شيئاً فشيئاً، فقد يتعلق هذا الشخص بصاحب القبر حتى يعظمه تعظيماً يخرجه من الملة ، وقد يأتي بعض الجهال من الناس فيرى من يعبد الله عند القبر فيظن أنه يعبد القبر ذاته فيفعل مثله، وبذلك تنتشر عبادة القبور. فهؤلاء ظلموا أنفسهم وضلوا وأضلوا غيرهم، وسنوا لمن بعدهم السنن السيئة من الغلو في قبور الصالحين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيئاً)   وقد افتتن كثير من الناس في بعض البلدان الإسلامية بتعظيم القبور والمزارات حتى وصل بهم الحال إلى التوسل بها ، والطواف حولها ، والذبح لها نسأل الله السلامة والعافية .

وإن المسلم ليعجب من فعل هؤلاء ، كيف يتركون التوسل بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى وينصرفون إلى التوسل بالقبور والأضرحة ، والله تعالى أخبر أنه قريب من عباده فقال تبارك وتعالى: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[  والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله)  .

فالله سبحانه يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تُكِنُّ الصدور والضمائر، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فلماذا اللجوء إلى الأموات والقبور؟ ولماذا اللجوء إلى الجمادات وإلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئاً؟

ولهذا  يجب على المسؤولين في البلاد الإسلامية أن يمنعوا هذه المظاهر الشركية ، وألا يسمحوا ببناء المساجد على القبور لدفع هذا الشر العظيم . كما يجب على العلماء والدعاة التحذير من هذه المسائل الشركية التي توقع الناس في المهالك .

الوقفة الرابعة:

اعلم رعاك الله أن زيارة القبور على قسمين:

القسم الأول: الممدوح والمشروع وهو أن يزور المسلم هذا القبر، كي يسلم على الميت ويدعو لـه بما ينفعه من دخول الجنة والنجاة من عذاب النار والقبر ، وبهذه الزيارة أيضاً يتذكر الزائر الآخرة، إذ يتصور أن أصحابها في شغل شاغل، فمنهم السعيد ومنهم الشقي، ويتذكر أنه في يوم من الأيام سيكون كحالهم ، فيعتبر بذلك ويعمل من الصالحات ما يقربه إلى الله، ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة)  .

وهذه الزيارة ليس فيها منفعة وإعانة من الميت للحي، بل فيها منفعة الحي للميت بالدعاء لـه والترحم عليه، ولذا جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو لـه) .

ولكن لا يجوز أن يسافر الشخص لزيارة أحد القبور لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عيله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى)  .

القسم الثاني: الزيارة الممنوعة والمذمومة ، وهي إذا كانت الزيارة لعبادة صاحب القبر أو الذبح لـه فهذه شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام؛ لأنه صرف عبادة لغير الله والله سبحانه يقول:]إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه[ ويقول في الآية الأخرى :] وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ* وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ[  .

وكذلك طلب المدد والعون من هؤلاء الأموات شرك أكبر لقوله عز وجل:
]وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[  .

وقال أيضاً سبحانه وتعالى: ]ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[  .

أما من يعبد الله عند أحد القبور والأضرحة ويرجو بركتها ويتحرى الدعاء عندها ويطيل المكث رجاء بركة أهلها والتوسل بجاههم أو حقهم فهذه بدعة منكرة، وهي من وسائل الشرك الأكبر فيحرم فعلها  . 

الوقفة الخامسة:

الحديث الثاني الذي أورده المصنف فيه تصريح ببعض أعمال اليهود والنصارى؛ وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، فيبنون على القبور مساجد لصلاة فيها ، ولهذا لعنهم صلى الله عليه وسلم، بمعنى أن هؤلاء استحقوا غضب الله عليهم لفعلهم هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر بذلك في آخر حياته والموت ينازعه ليبين عظم الأمر وخطورته ، ويحذر أمته من صنيع مثل هؤلاء حتى لا يصيبهم اللعن.

وقد يشكل على البعض لعن النبي صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى وقد يكون بعضهم لا يعبد القبور فكيف يعمهم صلى الله عليه وسلم ذلك؟ والجواب: أن الحكم هنا للأعم والأغلب أو لمن كانت هذه صفته  . 

الوقفة السادسة :

حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه الذي ذكره المصنف يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ينكر أن يكون لـه خليل من الناس يحبه أعلى درجات المحبة، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم خليل الله، كما أن إبراهيم عليه السلام هو أيضاً خليل الله، وفي ذلك إثبات صفة المحبة لله سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته بما لا يشابهه أحد من الخلق وبلا تكييف لهذه الصفة ولا تعطيل لمعناها .

وفي الحديث فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ إنه فاقت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لـه عن غيره من الصحابة .

وقولـه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : (من أمتي) المقصود بها أمة الإجابة، وهم من آمن بدعوته واتبع شرعه ، وذلك أن الأمة تنقسم إلى قسمين: أمة الإجابة ، وأمة الدعوة وهؤلاء هم سائر الناس منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم سواء المؤمن منهم أو الكافر.

كما أفاد الحديث تحريم كون القبور مساجد يعبد الله عندها ، وذلك لأمرين: الأمر الأول: قولـه صلى الله عليه وسلم : (فلا تتخذوا القبور مساجد) أي لا تصلوا عند القبور أو تتخذوها مكاناً للعبادة.

الأمر الثاني: قولـه صلى الله عليه وسلم : (فإني أنهاكم عن ذلك) فأكد النهي الأول بهذه العبارة التي تفيد التحريم كما هو معلوم .

ولفظة (مساجد) الواردة في الحديث لا تعني بناية المسجد المتعارف عليها الآن فقط، بل تشمل كل مكان للصلاة حتى وإن كان في البرية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) .

أما الصلاة على الميت في المقبرة فجائزة وهي أمر خاص ومستثنى من النهي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المرأة التي كانت تقمّ المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ماتت ، فقال: (أفلا كنتم آذنتموني، دلوني على قبرها) فدلوه فصلى عليها  .

الوقفة السابعة :

حديث ابن مسعود الذي أورده المصنف يفيد أن الناس يتفاوتون في الشر كما يتفاوتون في الخير ، فمن الناس من يكون شره عظيماً ومتعدياً إلى غيره، ومنهم من يكون شره خفيفاً ومقتصراً على نفسه .

وقد بين صلى الله عليه وسلم صنفين من الناس هم من شرار الخلق، الصنف الأول: هم من تدركهم الساعة وهم أحياء، أي تقوم عليهم القيامة وهم أحياء، ولذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث ريحاً من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته)   فلا يبقى في الأرض من يؤمن بالله، ولهذا جاء في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً : (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله)  .

الصنف الثاني: وهو محل الشاهد وهم الذين يتخذون القبور مساجد ، وقد سبق الإشارة لحكم هذا الفعل، والواجب على المسلم أن يقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما من خير إلا دلّ الأمة عليه ، ومن أحدث بدعة فهي مردودة عليه، نسأل الله سبحانه الهداية للجميع .

الوقفة الثامنة:

إذا وجد قبر في أحد المساجد فهل يهدم المسجد أم يزال القبر؟

والجواب على ذلك أن يقال: إن الأمر لا يخلو من أن يكون بناء المسجد أولاً أو يكون القبر هو السابق لبناية المسجد ، فإن كان المسجد قد بني على قبر أو قبور فيجب هدم هذا المسجد ؛ لأنه أسس على خلاف ما شرع الله، والإبقاء عليه مع الصلاة فيه إصرار على الإثم وزيادة غلو في الدين وذلك يفضي إلى الشرك الأكبر كما أسلفنا .

أما إذا بني المسجد على غير قبر ثم دفن فيه أحد من الناس فلا يهدم هذا المسجد، ولكن ينبش هذا القبر ويخرج من كان مقبوراً فيه ويدفن في مقابر المسلمين إن كان منهم؛ لأن دفنه في المسجد منكر فيزال هذا المنكر بإخراجه من المسجد  . 



بحث عن بحث