الوقفة الأولى:

شرح مفردات الباب:

(الغلو) : الارتفاع عن الحد المشروع ومجاوزته .

وثنا: هو ما عُبد من دون الله ولا صورة لـه كالقبور والأحجار والأشجار والحيطان ونحوها .

(اللات): كان رجلاً صالحاً يطعم الحجاج فلما مات عكفوا على قبره فصار وثناً يعبدونه من دون الله .

(العزى): شجرة بين مكة والطائف كان أهل الجاهلية يعظمونها ويعبدونها.

(يلت لهم السويق): السويق هو دقيق الشعير، واللّت هو الخلط والعجن .

(السرج): جمع سراج وهي أداة يصدر منها نار صغيرة، لتضيء للناس في الظلام.

الوقفة الثانية:

أورد المصنف هذا الباب في كتاب التوحيد ليشير إلى أن الوسائل المحرمة قد تؤدي إلى ما هو أكبر منها وأشد تحريماً، والغلو في قبور الصالحين والرؤساء قد يصيرها في النهاية أوثاناً تعبد من دون الله، فيستغاث بها وتدعى وترجى من قبل بعض المساكين الجهال الذين يتركون التعلق بالله وحده لا شريك لـه فيعبدون غيره.

وأورد الشيخ -رحمه الله- قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد...) وهذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم لله سبحانه وتعالى ألا يجعل قبره وثناً يعبد ويطاف به أو يذبح لـه أو يدعى من دون الله، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم اشتداد غضب الله عز وجل على من اتجه إلى القبور وصرف لها ما لا تستحقه من التعظيم، وسبب هذا أنها قد تكون وسيلة للشرك الأكبر بالله سبحانه، وذلك إذا عبد الله عند هذا القبر أو تمسح به أو طلب بركته ونحو ذلك، وقد تكون شركاً أكبر إذا اتجه الأمر إلى عبادة صاحب القبر نفسه .

والفعل من الشخص قد يكون مباحاً في الأصل أو مستحباً لكن إذا كان يؤدي إلى ما هو محرم يصير هذا الفعل محرماً، والوسائل لها أحكام المقاصد، بشرط ألا تكون الوسيلة محرمة، فإن كانت كذلك وجب ترك هذه الوسيلة وإن كانت الغاية والهدف المنشود أمراً مباحاً أو مندوباً .

وهنا أمر آخر ورد في الحديث وهو دعاؤهصلى الله عليه وسلم بألا يجعل قبره وثناً يعبد، فلماذا ذكره؟

والجواب: لضرر هذا الأمر على الأمة بأكملها، وتحذيراً لهم من الغلو في قبره صلى الله عليه وسلم ، وقبور الصالحين من بعده من باب الأولى .

الوقفة الثالثة:

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فيه فائدة إثبات صفة الغضب للرب عز وجل، وهي من الصفات الفعلية المتعلقة بمشيئته سبحانه إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، وأهل السنة والجماعة يثبتونها كما جاءت في الشرع من غير تكييف لها، فلا نقول: إن غضب الله يكون كذا وكذا، ولا نقول: إن غضبه سبحانه كغضب الآدميين، ولكننا نعلم المعنى وأنه غضب منه سبحانه ويستحق المغضوب عليه العقوبة من الله عز وجل .

وقد سئل الإمام مالك عن صفة الاستواء فذكر أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وهذا الكلام عام في جميع صفات الله عز وجل، ونحن حينما نثبت صفاته سبحانه نثبتها على الوجه الذي يليق به من دون مشابهة لأحد من خلقه على حد قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

الوقفة الرابعة:

الأثر الذي أورده المصنف عن الإمام مجاهد بن جبر – رحمه الله - تلميذ الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما هو تفسير لقوله تعالى: )أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى( ، فقد كان هناك رجل صالح يطعم الحجاج نوعاً من الطعام فلما مات عكفوا على قبره حتى عبدوه، فصار وثناً من أوثان المشركين وسمي باللات .

فالملاحظ هنا أنهم غلوا في تعظيم القبور حتى أدّى ذلك إلى عبادتها من دون الله عز وجل فوقعوا في الشرك، ولا إشكال أن يذكر الناس محاسن الموتى ومن كان لـه إصلاح وخدمة لأسرته ومجتمعه وأمته، وأن يدعى لـه بل هذا أمر حسن، ولكن الإشكال هو التجاوز عن الحد المشروع، كأن يُنصب لـه قبر واضح ومن ثم يبرز ويتبرك به ويطاف حوله وهذا أشد وأقبح، وقد يعبدونه من دون الله، نسأل الله السلامة والعافية.

الوقفة الخامسة:

لقد لعن رسول الله المتخذين على المقابر المساجد والسُرج، والمراد بذلك أن يجعلوا هذا القبر مصلى ومسجداً يعبد الله فيه، أو يتحرى الصلاة عندها، فهذا يستحق اللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله .

كما أن من يتخذ على المقابر سُرُجاً يستحق اللعن، وسبب هذا اللعن في الأمرين أنها وسيلة لتعظيم القبور ومن ثم عبادتها من دون الله، فلعن رسول الله صلى الله عليه وسلممن فعل هذه الوسيلة لأجل أن يمتنع الناس من الوقوع فيما هو أشد، وهذه قاعدة كما سبق أن للوسائل أحكام الغايات .

والشريعة الإسلامية جاءت بالوسطية فقد جاء النهي عن تعظيم القبور فيصار لعباداتها، وكما نهي في المقابل عن إهانة المقابر، بل أمرنا أن نحترم القبور وألا نجلس على قبر ولا نمشي عليه، فحرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً .

ولا مانع منع تسوير المقبرة وأن يوضع بداخلها شوارع ليسهل الوصول إلى القبور حتى تنظم الأمور ولا تكون فوضى، ولكن يجب ألا يوقع في النهي ويتخذ السراج في المقابر، إذ قد لا يعظم هذا الجيل المقابر ثم يأتي بعدهم جيل يعظمونها إذا شاهدوا الإنارات، ثم يأتي بعدهم جيل يعبد هذه القبور عياذاً بالله، فلذا حسمت مادة هذا الفساد بالنهي عن إنارة المقابر .

الوقفة السادسة:

ما حكم زيارة النساء للمقابر ؟

اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

القول الأول: تحريم زيارة النساء للمقابر، بل إنها كبيرة من كبائر الذنوب. حديث ابن عباس الذي أورده المنصف .

القول الثاني: يكره لهن زيارة المقابر، واستدلوا على ذلك بحديث أم عطية أنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) .

القول الثالث: يجوز لهن زيارة المقابر، واستدلوا عليه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" . ولما مر صلى الله عليه وسلمعلى امرأة تبكي عند قبر قال لها: (اتقي الله واصبري) ، ولم ينهها صلى الله عليه وسلم عن الجلوس عند القبور ولو كان محرماً لنهاها .

والصحيح - والله أعلم - القول الأول، وأنه لا يجوز لهن زيارة المقابر، للحديث الصريح في لعن زوارات القبور، وأما حديث أم عطية رضي الله عنها فهذا فهم منها وليس من صريح كلامه صلى الله عليه وسلم، أما حديث المرأة فهي لم تخرج للزيارة وإنما خرجت لما في قلبها من الحرقة والحزن الشديد على ما أصابها فلم تتحمل، ولذلك أمرها صلى الله عليه وسلم بالصبر على هذا البلاء.

وأما حديث الأمر بزيارة المقابر فهو خطاب للرجال دون النساء؛ بدليل لعن زوارات القبور.

ويضاف إلى ذلك أن المرأة بطبيعتها ذات عاطفة جياشة، فإذا رأت القبور تصورت حالهم فستتأثر كثيراً، ومن ثم قد يؤدي ذلك لشق الجيوب ولطم الخدود وأمور أخرى لا تحمد عواقبها والله أعلم  .



بحث عن بحث