الوقفة الأولى :

شرح مفردات الباب:

(التطير) : الطيرة بكسر الطاء . وهو التشاؤم بالطير .

(هامة): طير من طيور الليل وتسمى البومة.

(صفر): هو أحد أشهر السنة، وكان العرب يتشآمون منه.

(نوء): مفرد (أنواء) وهي منازل القمر.

(غول): هو جنس من الجن والشياطين.

(حول): الانتقال من حال إلى حال.

(قوة) : القدرة على الشيء.

الوقفة الثانية:

علاقة هذا الباب بكتاب التوحيد هي لبيان أن التطير يقدح في توحيد العبد لله عز وجل ، فإذا علمنا أن الذي يقدّر الأمور كلها هو الله عز وجل ، دلّ على أنه لا طير البوم ولا غيره لـه علاقة بالأمور الغيبية مستقبلاً، وإنما الأمر كله لله سبحانه وتعالى ، فالذي يقع في هذا التطير كما سيأتي يخل بتوحيده لله عز وجل إما إخلالاً كلياً وإما إخلالاً جزئياً بحسب هذا التطير .

الوقفة الثالثة : 

قال المصنف - رحمه الله - وقوله تعالى: ]أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ[ [الأعراف:131] .

فلما تطيروا هذا التطير جاءهم بسبب الكفر والتكذيب بآيات الله وبرسله وبالذات عن هذا القول بموسى عليه السلام ]أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ( ، فالله سبحانه وتعالى ذكر اللفظ بناءً على ما كانوا يفعلونه، وإلا فالمعنى ما قضاه الله وقدره عليهم، وما وقع عليهم مما جعلوه تطيراً هو بقدر الله سبحانه وتعالى وبقضائه جل وعلا ، ولكن هؤلاء قوم جاهلون لا يعلمون كما ذكرهم الله سبحانه وتعالى .

الوقفة الرابعة: 

وقوله تعالى : ]قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ[ [يـس:19] هذا تقريب من الله سبحانه وتعالى، ]طَائِرُكُمْ[ بمعنى حظكم، وما نابكم من الشر، )مَعَكُمْ(: يعني: أفعالكم وكفركم، )أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ( : يعني قلتم إنا تطيرنا بكم )بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ[: يعني عادتكم الإسراف في العصيان ومنه جاءكم التشاؤم عقيدة لكم من الله سبحانه وتعالى، وهذا إقرار من الله سبحانه وتعالى وبيان لهم بأن ما جاءهم من التطير والتشاؤم بسبب أنفسهم بما فعلوه من الفسق والخروج عن طاعة الله سبحانه وتعالى . 

الوقفة الخامسة :

مر بنا أن معنى التطير جاء بسبب أهل الجاهلية لتشاؤمهم من الطير فاصطلح لـه هذا المسمى .

هل هذا الأمر ينتقل إلى وصف الأفعال الأخرى التي قد تكون لـه علاقة بالطير مثل مواقف معينة أو استشهادات في هذا الباب ؟

قضية الطير هذه مجرد مثال على ما كان يفعله  أهل الجاهلية، وإلا فالخرافات التي تعج بها الجاهلية لا حد لها فهي كثيرة جداً، وهذا المثال يمكن تطبيقه على سائر الأمور مثل أن يتطير الإنسان بسيارة مثلاً أوجو من الأجواء، كأن يكون هناك مطر، أو غبار، أو هواء وهكذا، فلا يفعل هذا الفعل الذي يريد أن يفعله ، فيرده هذا الأمر تطيراً وتشاؤماً بأنه سيقع مكيدة ومصيبة لو عمل هذا العمل، فأهل الجاهلية كانوا يتطيرون بطائر البوم والأيام والأشهر مثل شهر صفر، ويتطيرون بما يسمونه بالغول كما سيأتي وهو نوع من الشياطين، ويتطيرون بالنجوم يقولون: أنت نجمك سعيد وأنت نجمك شقي وهكذا.

الوقفة السادسة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) أخرجاه زاد مسلم (ولا نوء ولا غول) هذا الحديث في غاية الأهمية في تثبيت المسلم على عقيدة التوحيد والكلام عنه بعد هذه الألفاظ يتبين لنا كيف أن هذا الحديث الوجيز كان جامعاً لفوائد عظيمة جداً في تثبيت عقيدة المسلم .

وهناك إشكال وهو:

قد يقول قائل : يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا عدوى) ونحن نجد في الواقع المحسوس أن كثيراً من الأمراض تنتقل من شخص إلى آخر عن طريق الحشرات مثلاً كالذباب أو البعوض ونحو ذلك أو الفيروسات الموجودة في الهواء؟

نعم هذا يقع بلا شك وهو واقع محسوس، ولذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : (وفر من المجذوم فرارك من الأسد)   يعني هل هذا تناقض في توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا ، ولكن العدوى بذاتها لا تضر، إنما إذا قدر الله سبحانه وتعالى أن المرض ينتقل، وقد تجد البيت الواحد يكون فيه عشرة أشخاص ويمرض واحد وينتقل هذا المرض إلى اثنين أو ثلاثة لكن البقية لا ينتقل المرض إليهم لماذا؟ هذا يعلمنا أن هذا الانتقال بقدر الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد هذا المرض وهو الذي جعل من طبيعة هذا المرض أن ينتقل، وفي الوقت نفسه هذا الانتقال إذا شاء الله جل وعلا أن ينتقل إلى شخص دون آخر فهو كما قدره الله سبحانه وتعالى.

وفي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أراد أن يذهب إلى الشام فذكر أن فيها الطاعون، فاستشار بعض من معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فأشاروا عليه ألا ندخل هذه البلدة التي فيها الطاعون، فقرر عمر رضي الله عنه الرجوع وعدم دخول الشام، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فقال لأمير المؤمنين رضي الله عنه: أفراراً من قدر الله؟ يحتج على أمير المؤمنين رضي الله عنه بأنه يفر من قدر الله؟ قال عمر رضي الله عنه: (نفر من قدر الله إلى قدر الله) فالذي قدر وجود هذا الطاعون هو الذي أمرنا ألا ندخل في بلدة فيها هذا الطاعون، وفي الوقت نفسه لو جاء شخص يريد أن يفر من هذه البلدة التي وجد فيها الطاعون نقول لـه : لا تفر إن وجدت في هذا المكان الذي فيه الوباء، ولئلا تدخل بلدة فتنقل العدوى وهنا تجمع بين قولـه (لا عدوى) وقوله (وفر من المجزوم فرارك من الأسد) .

الوقفة السابعة :   

يتلخص مما سبق بيان المنهج الذي يتعامل به المسلم مع هذه الأشياء مما يعرض له ومنه:

الأمر الأول: أن الأصل التوكل على الله في جميع الأمور، فأنت في هذه الدنيا لا تسير نفسك ولا تقدر لنفسك ما شئت وإنما الأمور تتم بقدر الله سبحانه وتعالى فعليك أن تتوكل على الله سبحانه وتعالى في كل شيء، ولذلك علمنا الله عز وجل هذا المعنى بما نقرأه في كل ركعة من ركعات الصلاة: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[  .

الأمر الثاني: وهو ينبني على الأمر الأول ، معرفة أن الأمور بيد الله صغيرها وكبيرها حتى النملة السوداء التي تدب على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء يعلم ربنا جل وعلا مسارها ، كما يعلم ما يجري في أعماق البحار في الليالي الشديدة السوداء ، فالله سبحانه وتعالى بيده الأمور كلها، وهو الذي يحيط بها علماً، فينبني على التوكل على الله سبحانه وتعالى معرفة أن المقادير كلها بيد الله سبحانه وتعالى .

الأمر الثالث : أن سلوك المسلم في حياته كلها يجب أن يكون وفق شرع الله وتعاليمه، فيسافر في أي وقت متى تهيأت أسباب السفر، ويتزوج إذا تيسرت أسباب الزواج وغيرها من الأعمال من دون تشاؤم أو تعلق بالآخرين ونحو ذلك.

الأمر الرابع: أنه لا مانع من عمل الأسباب كما قال صلى الله عليه وسلم (اعقلها وتوكل)   ولابد من عمل الأسباب.

الأمر الخامس: أنه إذا قدر خلاف ما عمل الإنسان يطمئن لأنه عمل ما يستطيع وما عليه، والنتائج بيد الله سبحانه وتعالى، فيعلم العبد أن مقاديره لحكم يعلمها سبحانه .

الوقفة الثامنة :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قالوا وما الفأل ؟ قال: الكلمة الطيبة) .

هذه زيادة في معالم منهج المسلم في التعامل مع الأشياء، ومنها الأمور التي أشرنا إليها من قبل، فعرفنا معنى (لا عدوى ولا طيرة) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (ويعجبني الفأل) والفأل فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الطيب، وهذا من باب التمثيل، فمثلاً لو كان شخص مريضاً ودخل عليه آخر يزوره فقال لـه: طهور إن شاء الله ، فالمريض هنا يستبشر وتنفتح لـه الآمال؛ لأن مستقبله الطهارة والسلامة بإذن الله عز وجل، ولذلك أُمِر الزائر والعائد للمريض أن يأتي بالكلام الطيب مثل: طهور إن شاء الله، فيتفاءل الإنسان بما يحدث لـه ، وهذا أمر في غاية الأهمية، ولذلك جاء في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي)   ويحسن التفاؤل وحُسن الظن بالله عز وجل في أوقات الشدائد كعند الموت، فعلى المسلم الذي يُحتَضَر أو من عنده أن يفتح لـه الآفاق والاستبشار وحسن الظن بالله جل وعلا وحينئذ يكون كذلك بإذن الله. فإذا ظن العبد بربه خيراً بأنه سيغفر لـه وبأنه سيدخله الجنة كان كذلك بإذن الله عز وجل .

فكذلك هنا في الأمور الدنيوية (يعجبني الفأل) نذكر عدة أمثلة لشرائح الناس؛ مثلاً يخرج الطالب من الامتحان فتسأله: كيف أديت الاختبار؟ قال: سيء مثلاً، فهذا يتشائم لكن آخر يقول: الحمد لله عملنا السبب وأرجوا أن يكون خيراً، فهذا يكون خيراً بإذن الله عز وجل، ولأن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، مثال آخر: يبحث الإنسان عن وظيفة أو طلب رزق أو عيش فيذهب إلى المؤسسة الفلانية والمؤسسة الفلانية فيقول لـه: كيف معاملتك؟ فيقول: يظهر أنه ما فيه قبول فكأنه حكم على مستقبله، هذا تشاؤم، لكن شخصاً آخر يقول: إن شاء الله سيكون الأمر أفضل مما توقعت، هذا تفاؤل.

فالأول الذي تشاءم وقال: أنه قد لا يُقبل هذا فسيعيش في قلق، لكن الآخر سيعيش في راحة وطمأنينة لأنه ينظر إلى مستقبل مشرق، وهكذا حتى ولو لم يتم لـه هذا الأمر فسيتم لـه الأمر الثاني أو الثالث، لكن ذلك اليائس والمتشائم سيحبط ولا يمكن أن يمشي في المعاملة الثانية إلا بتثاقل. وإذا أخذنا هذا الأمر من منظار آخر بأنه ابتلاء من الله ، يزيد من الحسنات ويكفر السيئات نستزيد من الراحة والطمأنينة ولا يكون وبالاً على المسلم .

الوقفة التاسعة:

بيّن حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الطيرة ذُكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل ولا ترد مسلما) هذه جملة مهمة عظيمة، أن الإنسان قد تغلب نظرته في بعض الأشياء فتطير مثلاً من شخص دخل عليه أو من كلمة سمعها وكان يريد أن يسافر، فهنا إما أن يقرر المعنى في قرارة نفسه بأن يسافر ولا يهمه ما وقع في نفسه من التطير، أو لا يسافر بناءً على تطيره، فالطيرة الممنوعة هنا التي ترده عن مشروعه الذي يريد القيام به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ولا ترد مسلماً) لكن قد يقع في النفس ما يقع بإرادة أو بغير إرادة فيكفر ما يقع فيقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) فإذا وقع ما وقع في النفس من التشاؤم من النظرة السوداوية كما يقال للمستقبل يقول هذا الدعاء فيسند الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ، ومضمون هذا الدعاء أن الجالب للخير والدافع للشر هو الله سبحانه وتعالى والحول والقوة بيد الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يمضي في أمره ومشروعه ولا يرده هذا التطير الذي وقع في قلبه، لذلك ينبغي أن يرتبط بالله سبحانه وتعالى .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أحسنها الفأل): يعني النظرة للمستقبل يجب أن تكون نظرة حسنة مستبشرة بفرج ونصر وصباح جميل وهكذا.

ولكن قد يقع في نفس الإنسان أحياناً ما يقع من التشاؤم لبعض الأمور؛ كأن تبدو علامات خسارة مالية أو فحوصات طبية على غير المتوقع فيقع في نفسه ما يقع من المستقبل المظلم في هذا الشأن فبين الرسول صلى الله عليه وسلم الفرق بين هذا الذي وقع هو محل الذم أو لا ، فإن كان الذي وقع في النفس رَدَّ الإنسان عن عمل يجب أن يقوم فيه أو رده عن مشروع خير أو طاعة فهذه هي الطيرة الشركية، أما إذا وقع في نفسه ما وقع فقط فهذا الخاطر يقع عند كثير من الناس، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى أحدكم ما يكره فليقل الدعاء المذكور . وليست الأمور دائماً على ظاهرها ، فأحياناً يقع المتخوف منه، فيقع موت المريض أو تقع الخسارة المالية، أو تقع مصيبة كبيرة من مرض أو حادث أو نحو ذلك.

لكن هذا ليس شراً على إطلاقه؟ هنا محل التقييد بأن ليس كل ما ظاهره شر أن يكون شراً، بل قد يكون هو الخير لهذا الإنسان الذي وقع لـه مما ظاهره شر، وإلا لكانت الحياة كلها مصائب لأن الإنسان خلق في كبد كما أخبر الله سبحانه وتعالى، لكن هذه المصائب تتقلب إلى منح جلية عظيمة قد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة أو فيهما جميعاً كما وعد الله سبحانه وتعالى لمن تعامل معها بالمعاملة الشرعية المناسبة ، فإذا وقع في النفس ما وقع يقول هذا الدعاء ويسند الأمور إلى الله سبحانه وتعالى : (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت)يعني : أي الحسن والطيب إلا أنت، (ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) ومعنى قولـه : (لا حول ولا قوة إلا بك) أي إلا بالله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا يتضمن أنه لا حول لي ولا قوة ولا أستطيع دفع الشيء الذي ظاهره شر أو جلب الذي ظاهره خير وإنما هذا مرتبط بك يا ربي، فيطلب الخير من الله سبحانه وتعالى، ولعظم هذه الكلمة كانت كنزاً من كنوز الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)   وهي تسهل العسير وتفرج الكروب وتطمئن النفس في حال توقع المكروه الذي يحصل لهذا الإنسان، فيفرج الله سبحانه وتعالى لـه ويقع لـه من الخير ما لم يتوقعه ، فهذا الذي يقع في النفس يرجى أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنه.

الوقفة العاشرة :

عن ابن مسعود مرفوعاً (الطيرة شرك، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخر من كلام ابن مسعود رضي الله عنه .

هذا الحديث فيه بيان الحكم الطيرة، وأن هذه الطيرة قد تقع في النفس، وفيه بيان علاج ما يقع.

المسألة الأولى: حكم الطيرة: وحكم الطيرة إما أن ترد إنساناً عن عمله أو لا، فإذا ردت الإنسان عن عمل فهي شرك بالله عز وجل، فمثلاً لو تشاءم الإنسان بطير كما كان أهل الجاهلية يتشاؤمون بطير البوم، أو تشاءم بركوب سيارة معينة ، أو دخل على موظف لمراجعة في الصباح فنظر إليه ووجده عابساً فتشاءم ، فإن كان هذا التشاؤم الذي حصل لهذا الإنسان رده عن عمله فهذا شرك بالله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن معنى هذا أنه جعل هذا الأمر إلهاً من دون الله وجعل لـه قدراً كما لله سبحانه وتعالى ، فهذا شرك بالله سبحانه وتعالى .

أما إذا لم يغير الإنسان من حاله، ولم يغير قراره بناءً على ما وقع من هذا التطير ، فهذا مما يقع في النفس ولا شيء فيه.

المسألة الثانية: فقوله: (فما منا إلا) هذا فيه بيان أن الخواطر التشاؤمية تمر على النفوس ، مثل أن يدخل الإنسان على قريب لـه مريض مثلاً، فينظر إليه وهو يتوجع ويتألم فيقع في نفسه أن هذه نهايته وأن الموت حلّ به، وأنه مسكين، ويود لو عاش وهكذا، وهذه قد تقع في النفوس، أو يدخل الإنسان في معاملة تجارية ثم يرى فلاناً من الناس فيتطير به ، فيقع في النفس أن الخسارة واقعة، وهذا يقع عند بعض الناس بإرادة أو بغير إرادة، لكن هذا الخاطر الذي يمر على الإنسان لـه علاج ، وهذا العلاج هو الأمر الثالث الذي ذكر في الحديث (ولكن الله يذهبه بالتوكل) كيف ذلك؟ عندما يسترجع الإنسان ويتذكر أن الأمور بيد الله سبحانه وتعالى، ويتذكر أن ما من ذرة في هذا الكون لا يستطيع تصريفها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع جلب الخير ودفع الشر إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع شفاء المريض ، وإسقام الصحيح، وإفقار الغني ، وغنى الفقير إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا رجع الإنسان إلى هذه المعاني عظم توكله بالله عز وجل واعتماده عليه واستعانته به ، واستقامته به جل وعلا، وذهب منه هذا الخاطر الذي سبب لـه النظرة التشاؤمية لمستقبل هذا المصاب، فلذلك يجب أن ينمي الإنسان في نفسه معنى التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن يعمل بالأسباب المعينة على هذا التوكل ليدفع به هذه الشركيات وليزيد من معنى التوكل، وهو بلا شك من لُب الإيمان ويزيد الإيمان، وهو من أجلّ الأعمال القلبية التي يجب على المسلم أن يمكنها من علمه لكي يعظم أمر الله سبحانه وتعالى، ومن ثم تذهب عنه هذه الوساوس والخواطر والهواجس والشكوك ، والنظرة السوداوية لأقدار الله سبحانه وتعالى، والآيات أكثر من أن تحصر في الأمر بالتوكل والأمر بالاستعانة - بالله عز وجل ، ويكفي أننا نقرأ في كل ركعة من ركعات صلاتنا وجوباً عليناً ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[ .

والتوكل على الله سلاح فعال وقوي ، يدفع الإنسان إلى أعمال عظيمة لو تأمل الإنسان حاله فيها لاستغرب كيف أن هذا الإنسان اندفع بهذا الاندفاع القوي وأنتج هذا النتاج القوي، لولا أن الله سبحانه وتعالى طمأن قلبه بعظم توكله عليه.

الوقفة الحادية عشرة:

روى الإمام أحمد من حديث ابن عمرو رضي الله عنه (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك) وكذلك حديث الفضل بن عباس : (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك).

هذا فيه تقرير للمعنى السابق الذي ذُكر، وهو أن الطيرة المذمومة هي الطيرة الشركية: هي التي ترد الإنسان عن حاجته، وقد سبق المثال بأنه يريد أن يقدم أوراقه للوظيفة فرأى شخصاً اسمه مثلاً غير مناسب فيتشاءم بهذا الاسم ، أو يريد أن يسافر ولما خرج من البيت وجد أن السيارة فيها عطل فتشائم، فإذا هذه الأشياء وأمثالها ردت الإنسان عن حاجته فهذه طيرة مذمومة وشركية وذلك أنه جعل هذا الشخص الذي تشاءم به أو تلك الحادثة التي وقعت لـه كأنه جعلها إلهاً مع الله سبحانه وتعالى ، تؤثر عليه في مسيرة حياته، ومن الطيرة أن بعض الناس قد يرى في منامه بعض الأحلام المفزعة ويرى أموراً يستوحش منها فترده هذه الأشياء عن قضاء حاجته، وهذا أيضاً من الطيرة المذمومة ، فلذلك ما رده عن حاجته هو شرك بالله سبحانه وتعالى وطيرة شركية، وعليه أن يكفرها بما قاله عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك) فكأنه عاد ورجع إلى الله سبحانه وتعالى فالخير لا يجلبه إلا الله سبحانه وتعالى والشر لا يدفعه إلا الله سبحانه وتعالى، والمعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى فلا إله إلا الله (ولا إله غيرك) فرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فهذه تكفر عنه ما يجد في نفسه من التطير، وكذا ما عمله من تلقاء هذا التطير. 



بحث عن بحث