الوقفة الأولى :

شرح مفردات الباب:

(مكر الله) : استدراجه العبد بالنعم إذا عصى وإملاؤه لـه حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر .

(يقنط) : القنوط أشد اليأس واستبعاد الفرج .

(اليأس) من روح الله): أي قطع الرجاء والأمل من الله فيما يأمله ويقصده و(الروح): بفتح الراء قريب من معنى الرحمة، وهو الفرج والتنفيس .

(الكبائر) : جمع كبيرة والمراد بها : كبائر الذنوب، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بأنها : "كل ما رتب عليه عقوبة خاصة ، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه" .

الوقفة الثانية:

أراد المصنف - رحمه الله - بهذه الترجمة أن ينسبها إلى أمرين عظيمين:

الأول : الأمن من مكر الله .

الثاني: القنوط من رحمة الله، وكلاهما طرفا نقيض .

وقد ذكر سابقاً ما يتعلق بالخوف من الله وما يتعلق برجاء رحمة الله عز وجل وما أعده الله للطائفتين من عباده، فالذي يقابل الخوف من الله هو الأمن من مكر الله عز وجل، والذي يقابل الرجاء هو اليأس والقنوط من رحمة الله ، وهذان الأمران عظيمان وكبيران وهما من أعظم الذنوب، فالأمن من مكر الله أن يتمادى الإنسان في المعاصي والذنوب مع استدراج الله لـه بالنعم فيأمن عذاب الله سبحانه وتعالى وعقوبته، وهذا بحد ذاته مرض من الأمراض منافٍ لأصل من أصول التوحيد وهو الخوف من الله سبحانه وتعالى .

لذلك افتتح المصنف - رحمه الله - هذا الباب بقوله تعالى : ]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[.

فهذا استفهام انكاري على العصاة الذين يأمنون مكر الله سبحانه وتعالى ويأمنون عقوبته وهم يوالون الذنوب تلو الذنوب ، ويقترفون المعاصي تلو المعاصي ، ثم قال سبحانه ] فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ فهؤلاء هم القوم الخاسرون أي الهالكون، والله سبحانه وتعالى حكم عليهم بالخسارة والهلاك يوم القيامة، وقد تأتيه هذه العقوبة بفتنة والعياذ بالله ومن ثم يهلك في الدنيا والآخرة .

الأمر الثاني الذي اشتمل عليه هذا الباب وهو في مقابل الأمن من مكر الله سبحانه ألا وهو القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، ويستدل المؤلف بقوله تعالى : ]وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ[ [الحجر: من الآية56] والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون وهم المخطئون لطريق الصواب الذين فقدوا الهداية وضلوا عن الصراط المستقيم، والقنوط أيضاً مرض من الأمراض منافٍ لأصل من أصول التوحيد وهو رجاء رحمة الله سبحانه وتعالى .

الوقفة الثالثة:

يستفاد من هذه الآيات والأحاديث تحريم الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله سبحانه .

أما الأمن من مكر الله فمن وجهين :

1 - أن الجملة وهي (أفأمنوا مكر الله) على صيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب .

2 - قولـه تعالى ] فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ . ففي هذه الآية تعليق الخسارة على الأمن من مكر الله تعالى وهذا سبب من أسباب التحريم.

وأما القنوط من رحمة الله فهو محرم أيضاً من وجهين:

1 - أنه طعن في قدرته سبحانه ؛ لأن من علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئاً على قدرته .

2 - أنه طعن في رحمته سبحانه؛ لأنه من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالاً .

فالمؤمن يسير إلى الله تعالى بين الرجاء والخوف، ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله - "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه ، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومن فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر"  .

فينبغي للمسلم أن يتجنب هذين الأمرين اللذين عدهما الشارع من الكبائر، ومن أهم الأمور التي تساعده على تجنبهما :

أولاً: ألا يلين ولا يستلم لوساوس الشيطان ، فالشيطان يبذل كل جهده ليدخل على قلبه القنوط من رحمة الله عز وجل ، فيجب على العبد أن يحذر منه، وأن يغلق الأبواب التي يدخل معها، وأن يعزز نفسه تعزيزاً قسرياً إذا رأى أن القنوط قد دخل قلبه بأن الله سبحانه سيرحمه، وأن رحمة الله وسعت كل شيء وأنه أرحم الراحمين .

ثانياً: أن يعمل بقدر استطاعته - وإن كان العمل قليلاً - مبتدئاً بالفرائض، ثم ما استطاع من النوافل والمستحبات، فإذا عمل الإنسان بفرائض الله وسننه فجزاؤه أن يتغمده الله جل وعلا برحمته .

ثالثاً: الحذر من المعاصي والذنوب ، حتى لا يصل إلى الأمن من مكر الله ؛ لأن المعصية نقطة سوداء تقع في قلب المسلم، فإذا أصر عليها اتسعت دائرة هذا السواد حتى تتغشى قلبه كله والعياذ بالله .

فعلى العبد إذا رأى في نفسه الخلل والتقصير أن يبادر بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق الذي غفر لـه ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة فكيف بسواه من العباد الضعفاء المساكين؟!

رابعاً: الارتباط دائماً وأبداً بالله سبحانه، فيستثمر وقته بذكر الله من قراءة القرآن وكثرة الأذكار المقيدة بوقت أو زمان والمطلقة في سائر الأوقات، والإكثار من نوافل العبادات كصلاة النافلة وصوم النافلة وصدقة النافلة، ومختلف الأعمال النافعة في الدنيا والآخرة. وهكذا يجد نفسه بإذن الله لا يقنط من رحمة الله، فيرجو رحمة الله ويخشى عقاب الله ثم يحمي هذا وذاك بالدعاء والتوجه لله سبحانه بأن يكون من الراجين الخائفين، وسيصل إلى هذه النتيجة والبغية بإذن الله تعالى.

الوقفة الرابعة :

أن الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته سبحانه أمران نجدهما للأسف عند كثير من الناس ، فنجد عند بعض العُبّاد وبعض أصحاب الطاعة يغلب عليهم اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه نجد أن كثيراً من العصاة قد أمنوا مكر الله سبحانه وتعالى وعقوبته، فيمنّ على الله بعمل الفرائض وما أدرى هذا المسكين أن عمله مقبول؟ وما أدراه أن سيئاته التي عملها لم تطفئ حسناته؟ وما أدراه أنه يموت على طاعة من طاعات الله سبحانه؟ فتجده يهون من أمر المعاصي والذنوب ويقلل من شأنها بأنها صغائر، أو لا يعلم أن الإصرار على الصغائر يصيرها كبائر، فالإصرار على الصغائر قد يصيرها كبائر، والمؤمن يجب أن لا ينظر إلى صغر المعصية ولكن ينظر إلى عظم من يعصيه وهو الله سبحانه رب الأولين والآخرين . ولكن الله سبحانه صاحب الحمد والمنة والفضل يكفر السيئات بعمل الطاعات كما يكفرها بالتوبة إليه، فالإنسان يجب أن يعيش بين طاعة الله فيرجو قبولها وبين إذا عمل معصية أو أذنب أن يبادر بالتوبة ولا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى . وحينئذٍ يسلم في الدنيا والآخرة. 



بحث عن بحث