الوقفة الأولى:

شرح مفردات الباب:

(الرياء) : مصدر من راءى يرائي، مشتق من الرؤية ، وهو أن يعمل عبادة ليراه الناس فيحمدوه عليها ، ويدخل فيه من عمل عملاً ليسمعه الناس، وجاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: (من راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به)  فالأول يقال لـه رياء، والثاني هو السُمعة.

وعكس الرياء الإخلاص لله تعالى ويعني : إفراده تعالى بالقصد في الطاعة ، وتصفيته من ملاحظة المخلوقين.

الوقفة الثانية:

في قولـه تعالى : ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[  استنبط العلماء من هذه الآية أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا بشرطين: الأول: الإخلاص لـه سبحانه، بألا يشرك معه غيره في العبادة، ولهذا الكفار لا ينكرون وجود الله بدليل قولـه تعالى : ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ[   ولكنهم يشركون معه بالأصنام وغيرها، وكذا المرائي الذي لا يعمل العمل إلا للناس فلا يكون مقبولاً عند الله، كما في حديث الباب.

الثاني: أن يكون وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبتدع أمراً يتقرب به لله لم يرد في الشرع . ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)  أي مردود عليه غير مقبول .

الوقفة الثالثة:

جاءت النصوص العديدة بالأمر بالإخلاص لله وحده في العبادة، ومنها قولـه تعالى: ]وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ[  وقال في آية أخرى ]الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[  قال الفضيل: أي أخلصه وأصوبه.

وجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى...)  .

ومما ينبغي أن يعلم أن المسلم قد يعمل عملاً يسيراً مخلصاً لله عز وجل يكون سبباً لدخولـه الجنة كما جاء في حديث البطاقة، وفي الرجل الذي أماط الشوك عن طريق الناس، وفي البَغِيِّ التي سقت الكلب، فهي أعمال يسيرة عظمها الإخلاص .

وفي المقابل ثمة أعمالٌ ظاهرها العظم ولا يستطيعها كثير من الناس لمشقتها نجدها لا تنفع أصحابها لما خالطها الرياء، ومن أظهر الشواهد على ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل تعلم العلم وعلّمه ، وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ، ولكنك تعلمت ليقال: عالم ، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار)  .

وفي بعض روايات الحديث : أن معاوية رضي الله عنه لما بلغه هذا الحديث بكى حتى غشي عليه ، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله ، قال الله عز وجل: ]مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[  فعلم من ذلك أن صرف المقاصد في الأعمال الشرعية لغير الله مُحبِط للعمل ومفوِّت للأجر .

الوقفة الرابعة :

ما حكم العبادة إذا خالطها الرياء؟

وللجواب عن هذا السؤال يقال: إن الأمر لا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: أن يكون قصده في العبادة ابتداء هو أن يراه الناس، فهذا شرك بالله تعالى والعبادة باطلة.

الحال الثانية: أن يكون قصده في العبادة إخلاصها لله، ولكن طرأ عليه في أثنائها الرياء، فهنا يجب عليه مدافعة هذا القصد الجديد الفاسد، ولا يسكن إليه بل يعرض عنه، ولا يؤثر في عمله إن دفعه بلا خلاف كما ذكره ابن رجب   لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)  . أما إذا لم يدافع هذا الرياء وسكن لـه فحينئذ تكون كالحالة الأولى فتبطل العبادة، ودليلها حديث الباب: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) .

الحال الثالثة: ما يطرأ بعد الانتهاء من العبادة ، فلا يؤثر عليها بشيء، إلا إن كان فيها عدواناً، كالمَنّ بالصدقة كما قال سبحانه : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى[  .

وليس من الرياء فرح الإنسان بعلم الناس بعبادته بعد الانتهاء منها، لما جاء في مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه فقال صلى الله عليه وسلم : (تلك عاجل بشرى المؤمن)  .

الوقفة السادسة :

هناك عدة أمور يمكن أن تكون وقاية بإذن الله عن الوقوع في الرياء ، وهي أيضاً علاج لمن وقع فيه وهي كالتالي:

1 - أن يعلم الإنسان أنه مخلوق في هذه الدنيا لعبادة ربه جل شأنه ، ولم يخلق ليرائي الناس.

2 - أن يجزم أن البشر الذي يرائي من أجلهم عبيد مثله، ولا يملكون شيئاً إلا بإذن الله ، وأن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء أو يضروه فلا يملكون ذلك إلا إن قدّره الله تبارك وتعالى، كما جاء في الحديث الصحيح: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) .

3 - أن يدرك حقيقة الشيطان بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويسعى لإغواء بني آدم، فيحذر أشد الحذر من مزالقه، فالمسلم أقوى منه، ولكن قد يكون الشيطان أطول نفساً.

4 - أن يستشعر المسلم أن العمل إذا خالطه الرياء وسكن لـه لم يقبل منه عند الله، وقد لا يحمده الناس عليه ، ويغفلون عنه، فلم يحصّل في الحالين شيء .

5 - أن يشتغل المرء بعيوب نفسه وتقصيرها في الواجبات والمستحبات ، ولا يسكن لمراءاة الناس ومديحهم وهو يعرف خاصة نفسه، وليعلم أن العمر قصير والمطلوب كثير .

6 - الحرص على عبادة الخلوات حيث لا يراه الناس، كقيام الليل، وقراءة القرآن، والبكاء من خشية الله، فهي تدرب المسلم على تعلقه بخالقه وطلب ما عنده في الآخرة.

7 - الحرص على مجاهدة النفس في ذلك ، ودفعه ما أمكن، ومن المجاهدة الدعاء لله بأن يجعله مخلصاً لـه تعالى في أعماله وأن يجنبه كيد الشيطان ، جاء في الحديث: (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره ، تقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم). 



بحث عن بحث