الوقفة الأولى :

شرح مفردات الباب:

(يظنون): الضمير يعود إلى المنافقين، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق على اليقين كما في قولـه تعالى: ]الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ[ .

(ظن الجاهلية): الجاهلية نسبة إلى الجهل، وإذا أطلقت يراد بها ما قبل الإسلام وهو المراد هنا .

(هل لنا من الأمر من شيء): يريدون أن ينزهوا أنفسهم ويرفعوا الملامة عنهم ويريدون أيضاً أن يعترضوا على قدر الله .

(قل إن الأمر كله لله): ليس لكم ولا لغيركم من الأمر شيء بل الأمر كله لله فإن كان كذلك، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره .

(ظن السَّوء): أي يتهمون الله في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلموالمؤمنين أنهم لا يُنصرون.

(دائرة السَّوء): دائرة العذاب والذل لازمة لهم لا تتخطاهم .

(سيضمحل): سيذهب ويتلاشى حتى لا يبقى لـه أثره .

(يديل الباطل): يجعل لـه الدولة والغلبة .

(تعنتاً على القدر): اعتراضاً عليه .

(إخالك ناجيا): أظنك ناجياً .

الوقفة الثانية:

هذا الباب يمكن أن تسميه (باب الظن بالله عز وجل)، فمن المعلوم أن الله سبحانه قدر الأمور كلها، ومن هذه المقادير ما ظاهره الخير ومنها ما ظاهره الشر، وتقدير الله سبحانه لحكمة بالغة لا يعلمها إلا هو سبحانه، فهل ما ظاهره خير هو دائماً خير؟ وهل ما ظاهره شر هو دائماً شر؟ وهل حال الإنسان دائماً على حال واحدة؟ لا شك أن الأحوال تختلف؛ فتمر على الإنسان حالات فرح وسرور، وحالات حزن وهمّ، وهنا يتميز موقف المؤمن الصادق، وهو أن يظن بالله خيراً في جميع الأحوال في الخير والشر، فهذه الحياة مبنية على الكبد والمشقة والإنسان فيها مبتلى، ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ[ .

فأراد المصنف -رحمه الله- أن ينبه على وجوب حسن الظن بالله، وأنه من واجبات الإيمان، وأن سوء الظن بالله ينافي التوحيد .

الوقفة الثالثة :

خلاصة ما ذكره ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:

الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق ويجعل لـه الغلبة الدائمة فيضمحل ويذهب معها الحق، فهذا ظن المشركين والمنافقين كما في سورة الفتح : ]بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً[ .

الثاني: أن ينكر أن يكون مجرى الأمور بقضاء الله وقدره، لأنه يتضمن أن في ملكه سبحانه ما لا يريد مع أن كل ما يكون في ملكه فهو ما أراده وقضاه وقدّره .

الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد؛ لأن هذا تضمن أن تكون تقديراته سبحانه تعالى سدى وعبثاً وباطلاً : ]ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا[، تعالى الله عن ذلك، فكل ما قدره لحكمة بالغة.

الوقفة الرابعة:

يخطئ كثير من الناس في هذا الباب؛ فإذا سئل المريض عن حاله قال: حال سوء أو حال تعب، ويأتي بهذه التأففات المزعجة التي تنبئ عن اعتراض على قدر الله سبحانه، وقد يصرح بذلك فيقول: لماذا يصيبني ذلك أنا لا أستحق، فهذا كأنه يشكو الله سبحانه وتعالى لخلقه تعالى الله سبحانه، أما إذا أخبرت عن نفسك إخباراً لا شكاية ولا اعتراضاً، فإذا سئلت عن حالك قل: الحمد لله، فإذا قيل هل فيك وجع؟ قلت: نعم؛ فأنت تخبر لا تعترض، والرسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لـه: إنك لتوعك قال: (أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم) . فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يوعك وليس في هذا اعتراض لأنه عن باب الإخبار، أما إذا كأن على سبيل الشكاية كأن تقول للإنسان: يومي أسود أو مصيبتي شديدة أو لم آكل منذ كذا كأنك تشكو ربك إلى الناس فهذا أمر خطير، فأنت لا تعلم حكمة الخالق سبحانه ولعل فيه خيراً لك، فإما أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمحو سيئاتك أو أن يرفع درجاتك، ولذلك يقول بعض العلماء: حمى ليلة تمحو جميع السيئات فإذا كان حمى ليلة تمحو جميع السيئات فكيف بالأمراض الشديدة المهلكة ؟!

فإذا ظن الإنسان بربه  الظن الحسن كان لذلك آثارٌ عظيمة على حياته من الطمأنينة والاستقرار والراحة والسعادة . وعلى حياته الأخرى بالسعادة الأبدية.



بحث عن بحث