التوحيد في تشريع الحج

يتجلى توحيد الله سبحانه وتعالى في كل شعائر الإسلام وفرائضه وآدابه، إلا أنه يبدو أكثر جلاء ووضوحًا في الحج، حيث لا يخلو نسك أو ركن منه إلا وفيه علامة أو إشارة إلى توحيد الخالق عز وجل قولًا أو عملًا، سواء كان هذا التوحيد في الربوبية أو الألوهية أو في الأسماء والصفات، وذلك لأهميته العظيمة في حياة الإنسان أو في الأسماء والصفات، وذلك لأهميته العظيمة في حياة الإنسان، وهي الحقيقة التي أرسل الله الرسل والأنبياء لترسيخها في نفوس الناس والعمل بمقتضياتها، وإزالة كل ما هو لغير الله من هذه النفوس من عبادة للأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو البشر أو القبور أو الأضرحة، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾، ويقول جل شأنه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾، وكذا قوله جل وعلا: ﴿ قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾، والآيات القرآنية في الدعوة إلى التوحيد كثيرة جدًّا، حتى قال بعض العلماء: إن غالبية سور القرآن تتضمن نوعي التوحيد.

ولأهمية التوحيد في حياة الإنسان وعظم شأنه، وصى به الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم  الأمة وهو في مرض الموت، وبيّن مفاسد الشرك وأسبابه، فقال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

هذا كله لأن حياة الإنسان ـ بكل مجالاتها وسبلها ـ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمدى صلاحية عقيدة الإنسان وتصوره نحو ربه جل وعلا، فكل أعمال الإنسان معلقة ومتوقفة على هذه العقيدة وذلك التصور، فإن كانت مبنية على التوحيد كانت مقبولة عند الله ويثاب عليها خير الجزاء، أما إذا ألبست بالشرك، فإن ذلك يذهب بالعمل ويجعله هباء منثورًا وإن صبغت هذه الأعمال بالخير والصلاح، ثم يكون مقر صاحبها ومثواه الخلود في النار والعذاب، قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾.

ولعظم أمر العقيدة وتوحيد الله تعالى وأهميتها في حياة الإنسان استغرقت دعوة الرسول  صلى الله عليه وسلم  لترسيخها وإقامة دعائمها بالشكل الصحيح في نفوس الصحابة ثلاثة عشر عامًا في مكة المكرمة، وكان نزول القرآن لا يتجاوز هذا الموضوع إلى شيء آخر، فالتوحيد هو محور الآيات المكية كلها، فلا تتطرق إلى الأحكام والمعاملات إلا نادرًا، لذلك كانت هذه الفترة أطول من فترة نزول أحكام الدولة وأحكام الجهاد والمعاملات، والتي استغرقت عشرة أعوام فقط، كل ذلك من أجل توطيد عقيدة التوحيد في النفوس، وإعلاء لوائها في الأرض، لرفعة الإنسان وسموه، فهو الذي سجدت له الملائكة، وسخر الله له ما حوله من الدواب والنبات وما أنزل من السماء وما أخرج من الأرض، فلا يُعقَل مَنْ هذا شأنه أن يسجد لصنم أو لحجر أو لشخص، فهو فوق ذلك وأسمى؛ بل الواجب أن تكون عبادته وعمله وحياته ومماته لله رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، لذا قال الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى التوحيد: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله».

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم».

وجاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما بعث النبي  صلى الله عليه وسلم  معاذًا إلى أهل اليمن قال: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم..» الحديث.

وأما وجود حقيقة التوحيد في الحج، فلا يخلو عمل أو نسك من نسك الحج إلا فيه دعوة لتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، وكذا فيه دعوة إلى نبذ كل أسباب الشرك وما يؤدي إليه، وتتبين هذه الدعوة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ حيث إن الأساس الذي بني عليه بيت الله الحرام هو أساس التوحيد ونبذ الشرك بكافة صوره وأشكاله، فقال جل شأنه مخاطبًا نبيه إبراهيم عليه السلام بعد بناء البيت: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ فلا يبقى في البيت إلا المؤمنون، فلهم بني هذا البيت من أجل إقامة الصلاة والذكر وأداء نسك الحج، فكان هذا هو الإعلان الواضح المبين للناس كافة على لسان إبراهيم عليه السلام، الذي أرسى دعائم هذا البيت وأقامها مع ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إلى أن كان الأمر الحاسم والجازم للأمة الإسلامية بأن لا يدخل هذا البيت ولا الحرم كله مشرك، وأن لا يبقى في جزيرة العرب كلها مشرك، فقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.

ويقول الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».

فالإعلان لفرضية الحج كان قائمًا على توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له، من يوم أن بني البيت إلى أن بعث الله نبيه محمدًا  صلى الله عليه وسلم ، الذي جاء داعيًا لما دعا إليه قبله إبراهيم عليه السلام، وناهيًا عن كل ما امتزج بتلك الدعوة من الشركيات والعبادات لغير الله.

والدعوة إلى توحيد الله أمر ضروري للإنسان في حياته الدنيوية والأخروية، حيث تترتب عليه بقية أعماله، فالإنسان الموحد حقيقة، يكون سلوكه وأعمال جوارحه انعكاسًا لهذا التوحيد، فيقبل الله منه أعماله ويجعلها في ميزان حسناته، وتكون ذخرًا له يوم القيامة، بعكس المشرك الذي يتخذ آلهة من دون الله، حيث تكون كل أعماله فاسدة لفساد تصوره وعقيدته، وقد بيّن الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم ، أن القلب العامر بالإيمان يكون له آثار صالحة على أعمال الجوارح، أما القلب الخاوي من هذا الإيمان فلا يكون له أثر إلا الفساد الوخيم والعمل القبيح، يقول  صلى الله عليه وسلم : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».

ثم إن الشرك بالله يدخل صاحبه في دوامة الاضطرابات والقلق، حيث تكثر عليه الأوامر من كل إله وبشكل مختلف، مما ينتج عن ذلك التناقض والاختلاف، فيحل الحلال ويحرم الحرام، يقول الله تعالى: ﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾.

وقد تجاوز هذا الشرك إلى الضلال والفساد في الحياة الاجتماعية والأخلاقية، ابتداء من وضع المرأة المزري في ظل الآلهة المصطنعة، وانتهاء بالطواف عراة حول الكعبة المشرفة، وما بينهما من فساد في المعاملات بين الناس، ووجود الفوارق الطبقية الفاحشة بينهم، وانقسامهم إلى سادة وعبيد، وقد وصف الله تعالى في كتابه العزيز حالة الإنسان المشرك في صورة عميقة من حيث الوصف والبيان فقال: ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾.

ويقول الله تعالى في وصية لقمان لابنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾.



بحث عن بحث