التوحيد في ذكريات الحج

إن دعوة الله  تعالى عباده لأداء نسك الحج وإقامة شعائره في أيام معلومات في أشرف بقاع الأرض تحمل بعدًا عقديًا ضاربًا في أعماق التاريخ، وترسل شعاع الإيمان من ذلك العهد عندما بدأ نبي الله إبراهيم عليه السلام في بناء بيت الله وإقامة قواعده مع ابنه إسماعيل عليه السلام إلى يوم القيامة في مختلف العصور والأزمان، وتحمل في طياتها دروسًا وعبرًا للأمة، فتبعث في القلوب حب الأنبياء والرسل، وحب الأماكن التي أقيمت لتعظيم شعائر الله فيها، لا لذاتها وإنما لدلالتها على خالقها سبحانه.

وإن زيارة مكة المكرمة وبيت الله الحرام والمشاعر المقدسة في الحج لتُبين مدى ارتباط هذه الأمة بعضها ببعض، متجاوزة كل الاعتبارات العرقية والإقليمية والاجتماعية، مقتدية بأنبيائها ورسلها في كل الأزمان والأمصار، لكنها تعيد ذكر أبي الأنبياء وخليل الله إبراهيم عليه السلام أكثر من غيره من الرسل صلوات وسلامه عليهم أجمعين، لأنه كان المكلف ببناء البيت وبالأذان فيه بالحج، وتطهيره للطائفين والقائمين والركع السجود، وقد ورد ذكر إبراهيم عليه السلام في كتاب الله في مواضع كثيرة جدًّا وفي مناسبات عدة، لعلاقته الوثيقة بركن من أركان هذا الدين، فيجد الحجاج أنفسهم يتأسون به عليه السلام، بوصفه المؤذن في الناس لأداء نسك الحج، يقول الله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.

وإن زيارة هذه الأماكن المقدسة ترجع بالذاكرة إلى ذلك العهد الحافل بالذكريات والأحداث التي كانت بداية ميلاد أمة على الأرض، وفرض نسك من مناسك هذا الدين، فيتذكر الحاج قصة إبراهيم عليه السلام وهو يترك زوجته مع رضيعها في ذلك الوادي القاحل دون طعام أو شراب، ويوكلهم إلى خالقهم الرزاق الرحيم، متجاوزًا بذلك المألوف من طبع البشر في اتخاذ الأسباب وتأمين ما يجعلهم يستمرون في الحياة، بأمر من الله تعالى، ولغاية عظيمة يعلمها الحق تبارك وتعالى ولم تتبين بعد لإبراهيم عليه السلام ولا لزوجته، متيقنًا عن اليقين أن الله سيجعل لهم من أمرهم يسرًا، لا سيما بعد أن دعا لهم ذلك الدعاء العظيم الذي يحمل في كلماته معاني الطاعة للباري عزَّ وجل، والرحمة على زوجته وابنه  الرضيع، وعلى ذريته والأمة المسلمة إلى يوم الدين: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾.

ربي لقد أسكنتُ من ذريتي
فاجعل إلهي كل أفئدة الورى

  بالواد في قلب الهجير الظامي
تهوي إليهم في رضى وسلام

ويتذكر الحاج هاجر أم إسماعيل عليهما السلام، الزوجة المطيعة لزوجها، الراضية بحكم الله وقدره، المؤمنة بالله، المتيقنة بأن ما فعله إبراهيم من أمر ربه، وأن الله لن يخذلها ولن يتركها في ذلك الوادي بين تلك الجبال منقطعة دون مأوى ودون مشرب ومطعم، ثم يتذكر وهي تهرول بين جبلي الصفا والمروة وقد أضناها التعب والعطش ورضيعها إسماعيل عليه السلام يبكي ويصرخ، فلم يصبها اليأس من رحمة الله، ولم تستسلم للهلاك، بل اتخذت الأسباب ودعت ربها الرحمة والإشفاق، فتنزل رحمة الله عليهما وتخرجهما من أزمتهما بزمزم الخير والبركة، وقدوم القبائل إليهما.

عين من الماء النمير تفجّرت
وإذا بزمزم عين كل حقيقة
وإذا الجبال الصم تروي قصة

  فإذا الرضيع عُفَّ بالإنعام
في عمقها غرقت ذرا الآثام
أحداثها صور من الإلهام

وما أدراك ما زمزم، آية من آيات الله البينات، جعلها الله حدثًا تاريخيًا، وبرهانًا عينيًا على صدق رسالة الإسلام، وقد جاءت في ذكر هذه البئر ومائها أحاديث كثيرة من الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم ، تبين فيها منافع هذا الماء للناس إلى يوم الدين، يقول الرسول  صلى الله عليه وسلم : «ماء زمزم لما شرب له».

والآثار في ماء زمزم كثيرة فهي طعام طعم وشفاء سقم وماء مبارك، وردت بذلك أخبار وتجارب.

ويتذكر الحاج والمعتمر في تلك البقاع المقدسة، بعد تلك الأحداث، قصة بناء أول بيت لله تعالى في أرضه، على يد خليله ونبيه إبراهيم عليه السلام، ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾.

﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿127 رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.

وفي منى يتذكر الحاج رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام وقيامه بتنفيذ أمر ربه تعالى، لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾، فيجيبه الابن البار بأبيه، المطيع لأمره، وبنفس راضية مطمئنة: ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾، ثم يعرض لهما الشيطان ويحاول أن يصرفهما عن تنفيذ أمر ربهما، وزين لهما العصيان والإثم، لكنهما عليهما السلام، أبيا أن يمتثلا لوسوسة الشيطان، وذهبا لأمر ربهما تبارك وتعالى، إلى أن تجلت رحمة الله تعالى في الفداء: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴿103 وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104 قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105 ِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106 وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108 سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾.

لله ما أعظم نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام في قوة الاستجابة والتحمل لأمر الله، فليعي المسلم الحاج ذلك فيستجيب لأوامر الله وإن كانت في ظاهرها شاقة.

ومن أجل ذلك كله قال الرسول  صلى الله عليه وسلم : «اللهم إن إبراهيم حرَّم مكة فجعلها حرمًا، وإني حرّمتُ ا لمدينة حرامًا ما بين مأزِميْها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يُحمل فيها سلاح لقتال، ولا تُخْبَط فيها شجرة إلا لعلف».

ثم ترفرف بالحاج ذكريات وتطوف حوله أمجاد أمة، وتلوح له آثار وأماكن في الحرم المبارك، كانت محل أحداث غيّرت مجرى العالم بأسره، وحولته إلى معالم سادها الحق والعدالة بعدما عانت البشرية قرونًا طويلة تحت وطأة الكفر والشرك كل ألوان العذاب، فكانت رسالة الإسلام التي نزلت على خير الأنام وخاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، حيث يشاهد الحاج الأماكن التي كان يتنقل بينها الرسول  صلى الله عليه وسلم  في بداية دعوته، ثم يتذكر ثقل الرسالة التي حملها هذا النبي على عاتقه وأمره الله بتبليغها إلى الناس، وما عاناه من الإيذاء من مشركي قريش وصناديدهم، ومن بني جلدته وأقربائه، إلى أن انتهت تلك الحقبة الزمنية بهجرة عدد من الصحابة إلى الحبشة والبعض الآخر مع النبي  صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة، وما كانت بعدها من الغزوات والدماء في سبيل نشر هذا الدين المكلف بتبليغه إلى الناس كافة.

والأهم من ذلك كله أن الحاج يتذكر أثناء القيام بأداء نسك الحج حجة رسولهم وحبيبهم المصطفى  صلى الله عليه وسلم  وكأنه ماثل أمام أعينهم وهو يؤدي مناسك الحج، فيقتدون به في أفعالهم وأقوالهم وتنقلاتهم بين المشاعر، ويطبقون وصاياه وأوامره في الحج، والتحلي بأخلاقه  صلى الله عليه وسلم  من حيث الوقار والسكينة وعدم الجدال، والرفق بالناس والتعاون معهم على البر والتقوى، امتثالًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا مناسككم»، وقوله للصحابة أثناء الإفاضة من عرفان: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع». وغيرها من المواقف.

فهذه الذكريات التي تطوف مع الحاج والمعتمر لبيت الله الحرام بهذه الصورة المتناسقة منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى وقت نزول آخر آية من القرآن، حملت معها توحيد الله عز وجل في كل حدث وحركة، وفي كل كلام ومقال، لأن المحور الذي كانت تدور حوله هذه الأحداث كلها كان محور وحدانية الله وإخلاص العبادة دون غيره من الآلهة، فيقوده ذلك كله إلى تعميق هذا المحور العظيم في نفسه، فيحكمه في شؤون حياته كلها.



بحث عن بحث