ظهور توحيد الله في أفعال الحج

أفعال الحج كلها دالة على التوحيد وموصلة إلى الإيمان ومعمقة للعقيدة في نفوس الحجاج، ومن ذلك:

1- في لبس الإحرام: الذي يشترك فيه الحجاج جميعهم، الروؤساء والمرؤوسون، والأغنياء والفقراء، والبيض والسود، وهذا اللبس عبارة عن رداءين أبيضين نظيفين يعطي للحجاج صورة واحدة، لا يتميز به جماعة دون أخرى؛ أو لون دون لون؛ بل يحقق لهم أسمى مظاهر الوحدة والمساواة، وحدة في المشاعر والتصور، ووحدة في المظهر واللبس، ووحدة في تجردهم من الدنيا وزخرفها، واللجوء إلى خالقهم بغطاءين يواريان سوءاتهم، لأن الموقف موقف خشية ورجاء وطلب المغفرة، لا سيما أن لبس الإحرام ترافقه التلبية والاستجابة لدعوة الله إلى امتثال أمره، وتوحيد الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عما لا يليق به، نفي الشرك عنه جل وعلا.

2- في الوقوف بعرفة: وهذا الوقوف أهم نسك في الحج، ولا يقبل الحج إلا بهذا الوقوف ولو جزءًا يسيرًا، لقول الرسول  صلى الله عليه وسلم : «الحج عرفة»، وفي عرفات تتجلى عظمة الخالق ويتجلى فيها توحيده، فالناس جميعهم في صعيد واحد، بلباس واحد، تاركين وراءهم الدنيا من أموال وأولاد وديار، رافعين أكف الضراعة إلى الواحد القهار، الغني منهم والفقير، والرئيس والمرؤوس، والأبيض والأسود، رجالًا ونساء، من أجل أن يتقبل الله توبتهم ويرجعوا إلى أهليهم وذويهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.

وفي هذا الموقف ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ويباهي بأهل الأرض أهلَ السماء، ويقول: «انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة»، ولذلك يكون هذا اليوم يوم خزي وذل وصغار للشيطان، لهذه الرحمة وهذه المغفرة التي تتنزل على العباد من رب العباد، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام لحال الشيطان الرجيم في هذا اليوم المبارك: «ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة».

وأي فعل أصرح من هذا في الدلالة على توحيد الخالق جل وعلا، إن الذي يقوم بهذا الوقوف ولا يتعمق إيمانه ويعود إلى سلوكياته الخاطئة ومعاصيه وذنوبه، لم يقدر لهذا الموقف قدره، ولم يستفد من حجه ووقوفه.

3- في الرمي: وفيه بيان لتوحيد الله تعالى بكل صوره وأشكاله، وفي الرمي حرب من المؤمنين القادمين من كل فج عميق على الشيطان الذي يوسوس للناس ويزين لهم المعاصي والمنكرات، فهو إعلان عام للعدوان على هذا المارد المتكبر الذي أبى أن يمتثل لأمر الله حينما أمره بالسجود لآدم عليه السلام قائلًا: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، فيكون رمي الجمرات مع التكبيرات التي يرددها الحجاج أثناء الرمي صورة حية لتوحيد الله تعالى، ورفضًا لفعل الشيطان ووساوسه، وفيه أيضًا تذكير وإحياء لقصة إبراهيم عليه السلام مع ابنه إسماعيل، وتعرض الشيطان لهما لمنعهما من تنفيذ أمر الله، ومحاربتهما – عليهما السلام – له برميه ليبعد عن طريقهم، ويمضوا لأمر ربهم، وكيف أنه في النهاية تولى حقيرًا ذليلًا، وفي ذلك بيان للأمة وتنبيه لها أنها بحاجة إلى مثل هذا الجمع في غير حالة الحج، لإعلان الحرب على أولياء الشيطان وأتباعه ممن يحاولون تفتيت شملها وزرع بذور الخلاف والتمزق بين أبنائها ونهب خيراتها، لتكون لها العزة والكبرياء.

4- في النحر: وهو النسك الذي يوحد فيه المسلمون ربهم بالفعل، وينبذون كل أسباب الشرك والعبادة لغير الله، وذلك بالنحر لله تعالى مخالفين بذلك المشركين الذين كانوا ينحرون لأصنامهم وأوثانهم، والنحر فضلًا عن أنها قربة يتقرب بها العبد إلى ربه جل وعلا، إلا أنها صدقة للفقراء والمساكين، وبالتالي هو إقرار من عباد الله بألوهية خالقهم وربوبيته، وقد جاء ذلك صريحًا في كتاب الله تعالى إذ يقول: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴿2 إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ    ﴾.

يقول  صلى الله عليه وسلم : «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملًا أحب إلى الله من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا».

وفي النحر أيضًا إحياء لذكرى عظيمة، وحدث مهم في تاريخ هذا الدين، ألا وهو رؤيا نبينا إبراهيم وهو يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، وأن الله تعالى صدَقَه الرؤيا وفداه بذبح عظيم، قال تعالى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿104 قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴿105 إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴿106 وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴿107 وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴿108 سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾.

ففي هذا الأمر تأسٍّ بأبي الأنبياء عليه السلام، واقتداء بنبينا محمد  صلى الله عليه وسلم ، الذي جعل الهدي واجبًا على الحاج المتمتع والقارن، وجعل الأضحية سنة مؤكدة لكل مسلم قادر عليها بل إن من أهل العلم من قال بوجوبها، وذلك دليل قاطع على وحدة هذا الدين ووحدانية رب هذا الدين، لأن كل هذه العبادات سلسلة متصلة ومتواصلة يكمل بعضها الآخر، ابتداء من أنبياء الله الأولين عليهم الصلاة والسلام وانتهاء برسولنا عليه الصلاة والسلام، وجميعها تخرج من مشكاة واحدة، هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ .

5- في الطواف: ويكون بالإحرام، يطوف الحجاج سبعة أشواط، في كل طواف ركنٍ أو واجبٍ أو مستحبٍ خاشعين ذاكرين، وداعين ومستغفرين، لله وحده دون سواه، والقلوب واجفة إلى ربها الواحد القهار، فلا هبل ولا اللات ولا المناة؛ بل الله الواحد القهار، ثم إننا نستشعر في الطواف وحدانية الخالق من خلال حركة الطواف نفسها التي تكون عكس عقارب الساعة، والتي هي موافقة لجميع حركات مخلوقات الله الدائرية من الأفلاك في السموات، والذاريات في المواد، والخلايا في الكائنات وغيرها، وهذه لفتة في خلق الله سبحانه وتعالى أن جل حركة الكون وأداء العبادات منسجمة ومتناسقة مع بعضها البعض، وهذا دليل واضح على وحدانيته جل وعلا.

وهذا الطواف حول الكعبة هو الطواف الوحيد الذي شرع للمسلم، ولولا أن الله شرعه لما جاز، ولذا لا يجوز الطواف بأي مكان آخر مهما كانت عظمته في نفوس الناس، فالمشرع هو الله سبحانه وتعالى، فليس للحاج والمسلم بعامة إلا أن يقول: «سمعنا وأطعنا»، وهذه الاستجابة عين قوة التوحيد.

6- تقبيل الحجر الأسود: والحجر الأسود – أو الحجر الأسعد كما يسميه بعض العلماء – هو المحور الذي يجسد وحدة الأمة، وبالتالي وحدة خالقها من خلال التوجه إليه في الصلوات والدعوات، رغم أنه حجر لا ينفع ولا يضر، لكنه يعبر عن نوع من النظام بين المسلمين بمختلف أجناسهم وأوطانهم، لتكون لهم جهة واحدة يتجهون إليها عند الطاعة والعبادة، فهو عامل للوحدة الإسلامية، وفي الوقت نفسه عامل لنبذ التفرقة والاختلاف بين أبناء الأمة الواحدة، والمسلمون يقبلون هذا الحجر ويستلمونه اقتداء برسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام، لا لأنه ينفع أو يضر، فالذي ينفع ويضر هو الله وحده لا أحد ولا شيء سواه، ومن اعتقد غير ذلك فقد أشرك مع الله تعالى، لذلك وقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمام هذا الحجر وقبله وقال مقولته المشهورة: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقبلك ما قبلتك».

ويقول الشاعر:

الحجر الأسود قبَّلته
لا لاعتقادي أنه نافع
محمد أطْهر أنفاسه
قبَّله والنور من ثغره

  بشفتي قلبي وكُلّي ولَهْ
بل لاقتدائي بالذي قبَّلهْ
كانت على صفحته مرسلهْ
يشرق آيات هدى مُنْزلهْ

وأما عن أصل هذا الحجر ومنشأه، فعن ابن عباس م قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم».

ويجدر في هذا المقام الإشارة والتنبيه إلى الخطأ الذي يقع فيه كثير من الحجاج والمعتمرين أثناء طوافهم ومحاولة بعضهم من أجل الوصول إلى الحجر الأسود وتقبيله، اقتداء بالرسول  صلى الله عليه وسلم ، فإن تقبيل الحجر سنة إذا أمكن الوصول إليه دون أن يصيب أحدًا بالأذى أو الإحراج أو الوقوع في محظور، أما إذا كان هناك ازدحام ولا سبيل للوصول إليه إلا بشق الأنفس وإيذاء إخوانه المسلمين، أو الوقوع في المحظورات، فإن ذلك ينقلب إثمًا على الحاج ووزرًا عليه، وعندها يشير بيده إليه ويكبر ثم يمضي، فقد ورد عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه قال لعمر رضي الله عنه: «يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر».

7 – السعي بين الصفا والمروة: وهو تنفيذ لأمر الله تعالى، واقتداء بالسيدة هاجر عليها السلام وهي تهرول بين جبلي الصفا والمروة ليفرج الله عنها كربها في نفسها وابنها الرضيع، لعلها تجد ماء أو كلأ، فلم تنقطع هذه المؤمنة عن الدعاء إلى الله والتضرع إليه، ولم يصبها اليأس والقنوط من رحمة الله، إلى أن جعل الله من أمرها يسرًا، فأخرج الله زمزم، وأرسل إليها القبائل.

وقد اتخذه الرسول  صلى الله عليه وسلم  عملًا من أعمال العمرة والحج عندما قدم يوم الفتح، فشرعه للحجاج والمعتمرين، فالمسلم وهو يؤدي هذا النسك مقتديًا بالرسول  صلى الله عليه وسلم  يعلن عمق الاستجابة لله تعالى.

والحجاج يذكرون الله في السعي يرجون رحمة الله وغفرانه وتفريج كروبهم كما فرّج عن هاجر ك كربها، وإن السعي بين الصفا والمروة أيضًا سبعة أشواط، يبدأ الشوط الأول بالصفا وينتهي السابع بالمروة، وهي  حكمة إلهية غابت عن الخلق علتها، أن يكون عدد أشواط السعي موافقًا لعدد أشواط الطواف.

وهكذا دلّت أعمال الحج كلها على توحيد الخالق جل وعلا، فَلْيَعِ المسلم الحاج ذلك، ويتأمله وهو يتنقل بين هذه الأعمال ويؤديها مطيعًا مجيبًا لخالقه، ليقطف ثمرة حجه وعمرته، وينال جزاءه: الجنة.



بحث عن بحث