وحدة مصدر التلقي في أداء مناسك الحج

إن من رحمة الله بعباده بعد أن خلقهم وجعل لهم الأرض ذلولًا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزق الله، ذلك أنه تعالى لم يتركهم في الحياة تائهين، يتخبطون في ظلمات الجهل، ومستنقعات الخرافات والأوهام، فأرسل إليهم رسلًا يهدون بأمر الله، ويدعون إلى صراطه المستقيم، ومنهاجه القويم، حتى لا يكون لهم حجة على الله تعالى، ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، ويقول جل ذكره: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾.

وقد أمر الله عباده بأداء فرائضه في كتابه العزيز، وجاء هذا الأمر عامًا من غير تفصيل في الكيفية والأداء، كقوله تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾، فلم يبين الله تعالى كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها، فكذلك جاء الأمر بالحج عامًا دون الدخول في التفاصيل والفروع، وإن تطرق بعض آيات القرآن إلى بعض المناسك، ولكنها تبقى إشارات وملامح، من أجل ذلك كان من مهام الرسول  صلى الله عليه وسلم  بيان هذه الفرائض للمؤمنين وكيفية أدائها، يقول الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.

فالرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم  هو المرجع الوحيد الذي ترجع إليه الأمة لأداء مناسك الحج والعمرة وجميع أمور التشريع، لأنه المصدر الوحيد الذي يأتيه الوحي من رب العالمين، فليس معه رسول آخر يعلم الناس، وليس إله آخر يأتيه الأمر من عنده فتتباين الأوامر وتختلف، وتضطرب الأمور وتتناقض، وهذه دلالة على توحيد الخالق عز وجل، ودليل على صدق نبوة الرسول  صلى الله عليه وسلم ، الذي لم يأت بشيء من عنده وإنما يوحى إليه من رب العالمين، ويبلغ ما يوحى إليه، يقول الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴿52 صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾.

ويقول جل شأنه: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ﴿1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴿2 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.

فمن أجل ذلك قال النبي  صلى الله عليه وسلم  للصحابة في حجته: «خذوا عني مناسككم» على غرار ما قال عليه الصلاة والسلام في شأن الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

والرسول عليه الصلاة والسلام هو قدوة المؤمنين في الحج وغير الحج، يسيرون على سنته ويهتدون بهداه، يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾.

والمؤمنون مطالبون بطاعة الرسول  صلى الله عليه وسلم  لأن طاعته من طاعة الله تعالى، ومن يعرض عنه فإنما يعرض عن الله، يقول الباري      عز وجل: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾.

ويقول جل وعلا: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾.

ففي الآيات الكريمات دلالة واضحة على أن مصدر التلقي هو الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وأنه لا مجال للجدال حول كيفية أداء الحج بعد هذه الأدلة القاطعة، فلا سبيل إلا السنة النبوية المطهرة في أفعال النبي  صلى الله عليه وسلم  وأقواله أثناء أدائه نسك الحج، وهذا ما اجتمعت عليه الأمة منذ أن فرض هذا النسك إلى الوقت الحاضر، وسيبقى ما دامت السماوات والأرض، وفي ذلك أكبر دليل وأوضح برهان على وحدانية هذا الخالق وانفراده بالتشريع لخلقه.

وكانت حجة النبي  صلى الله عليه وسلم  درسًا عمليًا للصحابة من حوله في ذلك الوقت، والأمة الإسلامية بعد ذلك إلى قيام الساعة، وكأن لسان حاله يقول: هذه هي الفريضة الأخيرة التي وجبت عليكم، تَعلّموها منّي وعلِّموها الأمة من بعدي، فإنكم لن تجدوني في العام المقبل، وهذه هي نهاية المهمة التي وُكلّتُ بها من رب العالمين، فيُلاحظ هذا التلقين واضحًا للصحابة في حجته  صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث جابر بن عبد الله الذي يروى في حجة النبي عليه الصلاة والسلام: لما دنا من الصفا قرأ ﴿  ﴾ «أبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأي البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبّره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات.

ثم إنه عليه الصلاة والسلام الرؤوف بالمؤمنين والرحيم بهم، يعرف متاعب الحج وأعباءه، وتنقلات الحجيج وأسفارهم، وازدحامهم في المشاعر المقدسة وفي بيت الله الحرام، وتبيان لغاتهم وعاداتهم وألوانهم، وكذلك يعرف أن فيهم الضعفاء من المرضى وكبار السن والنساء وغيرهم، من أجل ذلك كله كان ميسرًا للأمة أداء هذا المنسك العظيم، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: «يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، وأتاه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال فما رأيته سئل يومئذ عن شيء إلا قال: افعلوا ولا حرج».

وقال أسامة بن شريك: خرجتُ مع النبي  صلى الله عليه وسلم  حاجًا، فكان الناس يأتونه، فمن قال: يا رسول الله سعيتُ قبل أن أطوف، أو قدَّمت شيئًا أو أخرَّتُ شيئًا؟ فكان يقول: «لا حرج لا حرج، إلا على رجل اقترض عِرْضَ رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حَرجَ وهلَكَ».

وكان يقول  صلى الله عليه وسلم : «السكينة السكينة».

يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.

وفي هذا الدرس العملي الذي يقوم به المسلم وهو يؤدي حجه، يدرك تمامًا أنه عليه الصلاة والسلام القدوة في كل الأمور في الحج وغير الحج، فيقوّم المسلم سلوكه بناء على هذا الأصل العظيم، منطلقًا من وحدة المصدر للتشريع في حياته كلها، فلا عمل صحيح إلا ما شرعه الله تعالى أو بينه رسوله  صلى الله عليه وسلم ، فلا العقل وحده يشرع، ولا الهوى والمزاج يشرع، ولا الرغبات والآراء الشخصية تشرع، فالمشرع هو الله وحده لا شريك له، وهكذا يعمل المسلم في حياته كلها باستجابة كاملة وباستسلام كامل لله سبحانه، وبطيب نفس وانشراح صدر، وعدم اعتراض أو تأفف، قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.

وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾.

فهل يعي الحاج ذلك وهو يؤدي مناسك حجه؟ إن من يدرك ذلك ويعيه هو المستفيد من الحج حقًّا، والموحد صدقًا.



بحث عن بحث