جاهلية في الاعتقاد وجاهلية في الأخلاق

أما الأولى؛ فهي الأصل والأساس الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وهي اتخاذ الآلهة والأرباب من دون الله ليقربوهم إلى الله زلفى، وجاء الإسلام وقضى على هذه الجاهلية بتوحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والطاعات، وأما النوع الثاني، وهو جاهلية الأخلاق؛ فهذه الجاهلية ناتجة عن الأولى وامتداد لها، وهي عبارة عن السلوك المنحرف الذي كان يتبعه الناس قبل الإسلام في حياتهم الاجتماعية، فمزّقت المجتمع إلى طبقات غنية وأخرى فقيرة، وإلى سادة وعبيد، وأقوياء وضعفاء، وبالتالي فقد المرجع الذي يرجع الحقوق لأصحابها، فالقانون يطبق على الضعيف دون القوي، هذا بالإضافة إلى الحالة التي كانت تعيش فيها المرأة من ظلم واضطهاد من جميع الجوانب، من حيث وأدها ودَسُّها في التراب، أو من حيث حرمانها من الميراث والحقوق الإنسانية.

أما ما أشارت إليه هذه الخطبة من هذا الفساد الأخلاقي المالي: الربا الذي كان منتشرًا في الجاهلية بشكل واسع وكبير، وكان سببًا في تقسيم المجتمع إلى طبقات متباينة بشكل فاحش، لذا جاء ذكره في هذه الخطبة الجامعة، ولما يترتب عليها مفاسد أخرى، حيث إن انتشار الربا يؤدي إلى نوع من الكسل والاستهلاك الزائد وقلة الإنتاج وضعف قيمة النقد، بالإضافة إلى تفشي الاضطرابات النفسية والأمراض العصبية بالنسبة للذين يتعاطون هذا النوع من المعاملات، وكذا شيوع البطالة والفقر، وصدق الله إذ يقول: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾.

ج – التوصية بالنساء خيرًا: وقد جاءت هذه الوصية في مناسبات كثيرة من الرسول عليه الصلاة والسلام، حرصًا منه  صلى الله عليه وسلم  للحفاظ على كينونة الأسرة وتماسكها وترابط أفرادها، فمنها قوله  صلى الله عليه وسلم : «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» وذلك لبيان أن هذه المرأة بشر لها حقوق وواجبات، وأنها أمانة في عنق الرجل يسأل عنها يوم القيامة، بخلاف ما كانت عليه في الجاهلية من ظلمٍ لها وأكلٍ لحقوقها، وطعنٍ في إنسانيتها.

د – الحرص على التمسك بالقرآن وبالسنة: وذلك خشية أن تتبع الأمة السبل فتضل عن صوابها، ومن ثم تتبع البدع والضلالات، وخشية أن ترجع الأمة إلى ما كانت عليه في الجاهلية من اتخاذ الآلهة والأرباب وإن اختلفت في الصورة والشكل، فربما تتخذ آلهة من البشر، أو من القوانين الوضعية والمناهج الإلحادية التي تحارب الله ورسوله، فكانت هذه الوصية العظيمة، التي توعد الرسول  صلى الله عليه وسلم  الأمة بالعز والتمكين والهداية إلى الصراط المستقيم إن هي بقيت على هذين النبعين، حيث يقول فيما يرويه مالك في الموطأ: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه».

وقد تعرضت السنة النبوية لهجمة شرسة من أعداء الدين، بعدما فشلوا في الطعن في كتاب الله تعالى الذي تكفل فيه جل ذكره بحفظه وحمايته من التحريف والتبديل، فظهر أقوام وحاولوا الطعن في الدين من خلال السنة النبوية والتشكيك في حجيتها، محتجين ببعض آيات القرآن وتأويلها حسب أهوائهم وشهواتهم، كقوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾، وقوله جل ذكره: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ ليقولوا بعد ذلك بأن السنة ليست مصدرًا من مصادر التشريع ولا يحتج بها، ونسي هؤلاء وتجاهلوا الآيات القرآنية العديدة في وجوب طاعة الرسول، وأنها من طاعة الله تعالى، وأن الإعراض عنها إعراض عن كتاب الله، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾، وغيرها من الآيات التي تأمر المؤمنين باتباع الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

ولكن مهما هجم هؤلاء الأعداء الحاقدون على سنة رسول الله، فإن ذلك لن يغيّر شيئًا من هذا الدين، الذي تكفل الله بحفظه ورعايته، والذي بقي منذ أربعة عشر قرنًا ناصعًا صافيًا كما كان في جيل الصحابة رضوان الله عليهم، رغم ما تعرض له من هجمات وحروب خلال هذه الفترة، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾.

وقد تنبأ الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذه الفئة من الناس في قوله: «يوشك الرجل متكئًا على أريكته يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مثل ما حرم الله».

وهذه الهجمة لا تزال تعمل جاهدة لهدم أركان هذا الدين عن طريق هدم السنة والتشكيك في الأسانيد والمتون من قبل المستشرقين والعلمانيين والمنافقين، لكن الله تعالى وعد – ووعده الحق -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾.

هـ - توديع النبي  صلى الله عليه وسلم : كانت الكلمات الأخيرة من هذه الخطبة إشارة إلى قرب وفاته عليه الصلاة والسلام، وأن مهمته عليه الصلاة والسلام قد انتهت بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله، وأراد أن يسمع شهادة الصحابة عن أدائه لرسالة ربه على الوجه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، فقال بعد ما سمع كلامه: «اللهم اشهد» ثلاث مرات.

وقد أشار القرآن الكريم إلى انتهاء هذه المهمة بعد ذلك، وبيّن تمامها على ما أراده الله تعالى في الآية الكريمة: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾.

ثم جاءت إشارات أخرى بعد أن أكمل حجته عليه الصلاة والسلام، حينما خطب في الناس، فيما يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يقول أبو سعيد: فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ، إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لأتخذت أبابكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، ولا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر».

وفارق الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الدنيا وعمره ثلاث وستون عامًا .

وعندما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبر سلَّ سيفه، وتوعد من يقول: مات رسول الله، وقال: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فلبث عن قومه أربعين ليلة.

إلى أن جاء أبو بكر رضي الله عنه ليخبر الصحابة حقيقة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويعرفهم بحقيقة الدين قائلًا: «أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا  صلى الله عليه وسلم  فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، وتلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾، وقوله: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾. قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قد مات.

والمتتبع لبنود هذه الخطبة يجد بوضوح وجلاء دلالاتها على التوحيد الخالص من طرحها لكل شيء من أمور الجاهلية، وضرورة الاعتصام بالكتاب والسنة، فكما ابتدأ النبي عليه الصلاة والسلام دعوته بالتوحيد، فقد ختمها في خطبته بالتوحيد، والتوحيد لا يتم إلا باطراح الجاهلية كلها، وأشدّ أنواع الجاهلية، الجاهلية في الاعتقاد.

فهل يعي الحاج هذه الوصايا العظيمة المنبثقة من التوحيد ليحقق التوحيد، في حجه وفي غير حجه، اللهم حقّق ذلك.



بحث عن بحث