مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس شأنًا خاصًا لمسلم دون آخر، بل هي مسئولية عامة مصدرها التكليف الشرعي العام: «من رأي منكم منكرًا فليغيره»، وكلمة «من» من ألفاظ العموم، فكل مسلم آمن بالله ربا وبالإسلام دينًا مكلف شرعًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يستحق ولاية الله ورسوله والذين آمنوا إلا إذا قام بهذا الواجب: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71].

إن القيام بهذا الواجب فريضة شرعية، وهو مطلوب في كل حال، وفي كل وقت، سواء أكان المسلم غنيًا أو فقيرًا، قويًا أو ضعيفًا، فردًا أو جماعة، كثير العلم أو قليله، والذي يتنوع ويختلف إنما هو المنازل والدرجات، فهذه تختلف حسب الأحوال والأوضاع.

وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة صريحة لترسيخ معناه في الأذهان وتوثيق مغزاه في الوجدان ليكون موضع الرعاية ومحل العناية لدى كل مسلم غيور على دين الله ومحارمه، وهذه النصوص لها جانبان: جانب ترغيبي، وجانب ترهيبي.

أما ما يتعلق منها بجانب الترغيب فمن ذلك:

1 - أن الله تعالى أبرأ ذمة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من عهدة هذا التكليف الشرعي إذا قام به كما ينبغي، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164]، ومن قبل الله تعالى معذرته أبرأ ذمته من التكليف.

2 - ومن ذلك أن الله تعالى وعد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالفلاح في العاجلة والآجلة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

3 - ومن ذلك أن الله تعالى شهد بالخيرية للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر من دون سائر الناس، في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

4 - ومن ذلك أن الله تعالى وعد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالرحمة، فقال سبحانه: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71].

5 - ومن ذلك أن الله تعالى جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببا للنجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فقال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 165].

وأما ما يتعلق منها بجانب الترهيب، فمن ذلك:

1- ترتيب اللعن على ترك التناهي عن فعل المنكر، كما قال سبحانه:﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78 كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة : 78 – 79].

2- ومن ذلك التصريح بمعاقبة من تساهل في القيام بذلك الأمر والنهي، ففي الحديث الذي حسنه الإمام الترمذي : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه  أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «و الذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم».

وهذه النصوص من الكتاب والسنة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو قل: في البناء والمعالجة وعاها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم حق الوعي فكانوا يحذرون أشد التحذير من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقد أخرج الطبراني عن أبي جحيفة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه  قال: «إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، نكس فجعل أعلاه أسفله»، وإذا نُكِّس لم يبق فيه من الماء شيء.

ومن خلال تلك النصوص وأقوال السلف يتضح بجلاء وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه عاصم وقاصم: عاصم من الهلاك لمن قام به خير القيام، وقاصم لظهر كل من أهمله وهو قادر على القيام به.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سفينة للنجاة أو للعطب كما أخبر بذلك الصادق المصدوق  صلى الله عليه وسلم  حيث قال: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا ،كَمَثَل قَوْمٍ اسْتهَمُوا عَلَى سَفِينةٍ،فَأَصَاب بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسفَلَهَا،فكَانَ الذِينَ في أَسْفَلِهَا إذَا اسْتَسْقَوْا مِنَ الَماءِ مَروا عَلَى مِنَ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا لَو أَنّنا أخَرَقْنَا في نصِيبنَا خَرْقًا ،وَلَمْ نُوْذِ مَنْ فَوْقَنَا ؟فَإِن ْترُكُوهُمْ وَما أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجوْا جَمِيعًا».

بأيهما يبدأ؟

اقترن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر الآيات والأحاديث التي تحث على القيام بهذه الفريضة، وجاء ذكر النهي عن المنكر وحده في مواضع أخرى، وذلك مثل قوله تعالى عن بني إسرائيل: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿78 كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78 – 79].

وجاء إفراد النهي عن المنكر في الحديث: «من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وهذا التنوع في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على أن كلا منهما قد يطلب في ظروف أو أحوال معينة، وأنهما قد يجتمعان أو ينفردان، والذي يقرر دور كل واحد منهما تمكن أحدهما في المجتمع، فإذا تمكن المنكر كما كان الحال في مكة قبل الهجرة، أو كما هو في بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبرز ويأخذ دوره في عملية الإنكار وطلب التغيير للمنكر الأكبر، وإذا تمكن المعروف وهيمن على المجتمع فِإن النهي عن المنكر يبرز ويأخذ دوره لمعالجة الظواهر الشاذة، كما كان الحال بعد الهجرة إلى المدينة، وقيام المجتمع المسلم فيها، وكما هو الحال في مؤسسات إسلامية أو جماعة من الناس رضيت بحكم الإسلام فيها.

ولعل هذا الفهم هو الذي تدل عليه مجموع الآيات والأحاديث الواردة في هذه الفريضة.

وبناء على هذا الفهم، يترتب ما يلي:

1 – أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، متلازمان، لا غنى بواحد عن الآخر بالنظر لمجموع الناس.

2 – أنهما طريقان متوازيان يجب العمل بهما جميعًا، فلا يثرب على عامل في أحدهما ولم يعمل بالآخر، فكل منهما في الأهمية سواء.

3 – أن تقديم الأوْلى في زمان أو مكان أو حال خاضع لاجتهاد أهل العلم، ولقدرات الآمر والناهي.



بحث عن بحث