موقف الداعية من قاعدة العقل والعاطفة:

إن الداعية الحكيم الذي يبغي أن يكون منهجه وأحكامه وخطابه مؤثرًا هو الذي يتضمن إثارة العاطفة، وتحريك الفكر، فيجمع بهذا بين الأمرين، فإذا خاطب مدعويه خطابًا عاطفيًا أيّد خطابه هذا بالأدلة المقنعة والحجج الدامغة، وإذا خاطبهم بما يثير العقل، حلاه بالإثارة الوجدانية والمناجاة القلبية.

فإن محركات العقل تدفع إلى الاقتناع والتسليم.

وإن مناجاة القلب لها أثر في الاستجابة والاطمئنان.

وما يقال في حق الفرد يقال في حق المجموع من هيئات ومؤسسات وغيرها.

ولعلي بعد هذا التأصيل أضرب بعض الأمثلة التفصيلية في المواقف والأسلوب.

أولاً: في المواقف:

1- في موقف الدعوة من المنكرات وكثرتها:

فلو ركزنا النظر إلى حجم المنكر، وغلب على التفكير -عاطفيًا- دون أن يوضع في حجمه مع بقية الأعمال الدعوية الأخرى، فما الذي يحصل؟.

أ- استغراقه على الذهن.

ب- تضييع واجبات أخرى.

ج- قد يوصل إلى الغلو المنهي عنه.

ولو استهنا به ولم ينكر بناءًا على أنه منكر صغير أو لا يستحق تضيع الجهود فزدنا في النظرة العقلية المجردة، فما الذي يحصل؟.

أ- زيادة المنكرات.

ب- تراكم الأعمال.

ج- الوصول إلى التفريط المنهي عنه.

والموقف الحق – والله أعلم - أنه ينظر إلى كل عمل بحسبه سواء كان منكرًا كبيرًا في نظر الناظر أو أقل فينظر إليه النظرة المتوازنة العقلية والعاطفية المبنية على الأدلة الشرعية.

وهكذا يُجمع بين النظرتين لأجل أن توضع الأعمال الدعوية كلها في وضعها السليم.

2- مثال آخر: في موقف الدعوة من الأحداث العالمية والمحلية، لاشك أن الأحداث كثيرة ومتسارعة ويتطلب بيان الموقف منها، ومن ذلك -مثلًا- أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقف الدعاة في أنحاء العالم مواقف متنوعة، ومنها:

فمنهم من نظر نظرة عاطفية فجعل هذا نكالًا بالكفار فشجع وبرر العمل دون أن ينظر النظرة العقلية المتأنية التي تزن الأضرار والمنافع.

ومنهم من نظر نظرة عقلية مجردة دون أن يحسب الآثار العاطفية فلم يأبه بهذا الحدث وآثاره.

ومنهم من نظر نظرة أخرى وغلا في تقدير النتائج وحسبانها وأنه سيكون لها آثار على الدعوة، فحجّم الدعوة وانزوى واستجرم في نفسه.

ولتطبيق هذه القاعدة: أن يجمع بين النظرتين أو النظرات فيجرّم الفعل، ويبين آثاره، ويتبرئ الداعية والدعاة منه، ولكن لا تقف الدعوة أو تنحرف عن مسارها، أو يتنازل عن بعض الأحكام الشرعية، أو تتأخر بعض برامجها.

ويقاس على هذا الحدث مجموعة الأحداث.

3- ومثال آخر في الموقف من القضايا الفكرية في منهج الدعوة مثل: التعامل مع الكفار، ونجد الدعاة هنا أقسام:

- فمنهم من غلب النظرة العقلية في نظرة للتعامل مع الكفار، وغالبًا ما يسمى بالجانب الإنساني المشترك، فخف لديه أو ألغي جانب الولاء والبراء.

- ومنهم من غلبت عليه عداوة الكفار ونظر إلى عمق العداوة فأعلن الحرب عليهم مطلقًا، وألغى جانب: حسن التعامل الذي أمر به الشارع، فصار هذا الغلو ينمو لديه، وكلا النظرتين جانبتا الصواب فألغو عددًا من الأدلة الشرعية، والسبب غلبة جانب على جانب في  النظر إلى الأدلة الشرعية وتطبيقاتها.

والحق والله أعلم الجمع بين النظرتين المبنية على الأدلة من الكتاب والسنة.

وهكذا في جميع القضايا والمواقف.

ثانيًا: في الأسلوب والخطاب:

وهذا واضح وقد سبق بيانه في أثناء التأصيل، ولذا فمن الخير أن يجمع الداعية في خطابه، والدعوة في منهجها بين الخطابين العقلي والعاطفي كما سبق بيانه، ومن ذلك:

1-  موعظة المسجد.

2-  موعظة السوق.

3-  المحاورة مع المقصرين.

4-  المحاورة مع غير المسلمين.

5-  القصة المعبرة.

6-  التسلسل في الأفكار.

7-  الندوة التفصيلية.

8-  الإجمال في موضعه.

9-  التفصيل في موضعه وبخاصة في بيان الأحكام، أو تعقد المواقف، وإلى غير ذلك.

ومن هنا:

-   فإن الاقتصار على الموعظة وحدها دون البحث الفكري قصور.

-   كما أن الاقتصار على الطرح العقلاني المجرد دون مزجه بشيء من الخطاب العاطفي قصور.

-   والاقتصار على الخطاب الحماسي دون وضوح للفكرة قصور.

-   والاقتصار على النقد دون وضع الحلول قصور.

-   الاقتصار على البناء دون إنكار المنكر قصور.

-   والاقتصار على التعليم المجرد دون الوعظ والتذكير قصور.

-   وإهمال العلم والتعليم وتحفيظ القرآن قصور.

-   والاقتصار على عمل الأفراد دون المؤسسات قصور والعكس أيضًا.

وعليه فمن الخير للدعوة في منهاجها وأساليبها أن تتنوع في الأعمال، وأن يتخصص الأفراد في جوانب تسير في خطوط تكاملية، يكمل بعضها بعضًا اتباعًا لما جاء في القرآن الكريم وما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.

وكذا اقتصار الدعوة على أساليب معينه يعرضها للقصور وضعف النتائج والأشد من ذلك إذا اتخذت – مع هذا- التثريب على الآخرين في دعوتهم، فتضيع كثير من الجهود في تثريب بعضهم على بعض، وربما يصل الأمر إلى نقد الذوات، وولوج الشيطان على نفوس هؤلاء الدعاة، والنتيجة: ألا تصل الدعوة إلى الغاية والهدف التي ترنو إليه، وما يقال في الأسلوب يقال في اتخاذ المواقف.

وفي آخر هذه القاعدة أؤكد على أمرين بعد التوصية بإعمال هذه القاعدة في المواقف والأحكام والأساليب-:

1 – أن التأكيد على الجمع في الأسلوب واتخاذ المواقف بين العقل والعاطفة نعني بذلك المبني على الأدلة الشرعية لا على نظرة الإنسان المجردة،     أو تأملاته الشخصية.

2- ومع هذا يجب تكامل الدراسات بأدواتها المختلفة وبخاصة في الأحكام والمواقف مثل اتخاذها.

3 - أنه لا يعني ذلك عدم التخصص بل إن التخصص مطلوب ولكن المراد الجمع بينهما والتكامل وعدم التثريب في المجموع، فلو تخصص داعية في الوعظ لا يثرب على غيره من تخصص في الجانب التربوي فاتخذ خطابًا تربويًا وهكذا في الخطاب الفكري والعقلاني، وإنما يعتز بعضهم ببعض فهم يتكاملون لأن كلًا يقوم بما لا يقوم به الآخر.



بحث عن بحث