التدرج سنة شرعية:

كما أن التدرج سنة كونية فهو أيضًا سنة شرعية، إذ اقتضت حكمة الباري سبحانه وتعالى أن يتدرج في التشريع شيئًا فشيئًا، لأن طبيعة البشر تأبى قبول الأحكام جملة واحدة، أو الامتناع عن المحرمات مرة واحدة، وذلك لما ألفته النفس واعتادت عليه من العادات في جاهليتها، واستشكال ما هو جديد من العبادات، لذلك جاءت السنة الشرعية موافقة تمامًا لسنة الله الكونية.

قال تعالى: âوَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا á[الإسراء: 106].

فالقرآن الكريم الذي جاء لهداية البشرية لم ينزل إلى الناس دفعة واحدة، وإنما نزل متدرجًا على مدار ثلاث وعشرين سنة، يتدرج في الرقى بالمجتمع، وفي اقتلاع الفساد الاجتماعي المتجذر شيئًا فشيئًا، وهكذا بدأ بأحكام العقيدة قبل أحكام الشريعة، وفي العقيدة بدأ الإيمان بالله قبل الإيمان بالأركان الأخرى، وفي العبادات بدأ بالصلاة قبل غيرها..

مقدمًا في كل هذا الأهم على المهم، والحكم الواحد نفسه كثيرًا ما كان يشرع على مراحل، يوازن في المرحلة الأولى – إذا كان الحكم تحريمًا – بين المصالح والمفاسد ليهيئ النفوس إلى قبول الحكم ثم ينتقل إلى التحريم الجزئي وأخيرًا يأتي التحريم النهائي الكلي، كان هذا في تحريم الخمر وفي تحريم الربا وفي غيرها من الأحكام.

وهو منهج تربوي حكيم لولاه لصعب معالجة الظواهر الاجتماعية الفاسدة، لذا قالت أم المؤمنين عائشة ك: «إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا».

قال ابن حجر معلقًا على هذا الحديث: «أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس إلى ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: «ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندعها»، وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف».

ولم تحد سنة الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المنهج، ومن أقواله التي تراعي مبدأ التدرج، أنه لما  بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس».

وحين كان يسأل عما يجب على من دخل في الإسلام يبدأ بالأركان المهمة، فعن طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة». فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان» قال: هل علي غيره؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» . قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة. قال: هل علي غيرها؟ قال «لا، إلا أن تطوع». قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق».



بحث عن بحث