الدرس التاسع

من آداب الصيام(3)

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:

أخي المسلم: ما زلنا مع الحديث فيما يجب أن يتجنبه المسلم وبخاصة في هذا الشهر المبارك، ويتأكد ذلك ونحن نطوي ثلث الشهر الأول، ولقد عرفنا في الدرس السابق أن المسلم يجب عليه أن يتجنب النميمة التي هي الإفساد بين الناس، وكذلك الكذب، وهو الإخبار بخلاف الواقع وبخاصة إذا كان كذبا على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يتعلق بأموال الناس وأعراضهم، ولقد عرفنا الوعيد الشديد في ذلك، وفي هذا الدرس نكمل ما يتعلق بهذه الآداب.

أخي المسلم: هناك بعض الصور التي نعيشها في واقعنا اليومي، وهي بعيدة كل البعد عن المنهج الإسلامي في التعامل سواءً كانت في البيت أو الشارع أو السوق أو مكان العمل الوظيفي، أو المصنع وغير ذلك، ومن تلك الصور ما يلي:

الأولى: علمنا الشرع الحنيف أن نكون صادقين حتى مع الأطفال في حديثنا معهم، وفي وعودنا لهم حتى ينشئوا على ذلك ويشبّوا على حب الفضيلة وبغض الرذيلة.

روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: دعتني أمي يوما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  قاعد في بيتنا فقالت: تعال أعطيك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، فقال لها: أما إنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة».

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «من قال لصبي: تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة».

هكذا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم  الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم على حب الصدق والتنزه عن الكذب، ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين يعتبر هذا من الأمور الهينة، ومن التوافه التي لا يلقى لها بالا، فترى الأم أو الأب يكذب على الصغير ليسكته عن الصراخ أو العويل، أو يعده وعودا كاذبة ليلهيه عن أمر آخر وهكذا، لكن الإسلام بتشريعه الحنيف علمنا الحق والصدق ولو فيما نظنه صغيرا.

فعن أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها قالت: (إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه، يعد كذبا؟ قال: لا تجمعن جوعا وكذبا). وعليه، فلا يجوز لنا أن نعامل أطفالنا معاملة كاذبة ينشئون فيها على الكذب والخيانة.

الثانية: ومن الصور المنتشرة عند كثير في هذا المجال ما نلاحظه من قيام بعض الباعة بالكذب والغش في معاملاتهم،، فيحلف الرجل على أن هذه السلعة دخلت بكذا وهو كاذب، والآخر يصور للمشتري بأنها أفضل سلعة في السوق، وأحيانا قد يكون في السلعة عيب ويحاول أن يخفيه ونحو ذلك مما يفهمه الكثير ويتعللون بأوهام يزينها الشيطان لهم ليوقعهم في الحرام من حيث يشعرون أو لا يشعرون فيقول قائلهم: إن الناس يتعاملون بهذه المعاملة وأنا من الناس. وهذا مجرد وهم كاذب ليتوصل به إلى مزيد من الكسب المحرم.

ولقد صوَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن هذه المعاملات القائمة على الكذب كلها من الخيانة، روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس قليل»: وما اليمين الغموس؟ قال:«الذي يقتطع مال امرئ مسلم هو فيها كاذب». ويعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حرمة هذا الأمر بشكل صريح، وذلك فيما رواه البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لا يحل لامرئ مسلم أن يبيع سلعة يعلم أن بها داءً إلا أخبر به».

ولعظم هذا الأمر فقد نزل فيه قرآن، فعن ابن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليرفع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت: [ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] [آل عمران:77] .

فهذا وعيد شديد يحرك القلوب للحذر من الوقوع في هذه الكبيرة.

الثالثة: ومن الصور المنتشرة في دائرة الموظفين: الوعود الكاذبة للمراجعين، وعدم إعطاء الحقيقة لما تم عليه أمر معاملاتهم، وخديعتهم فيما يقومون به من عمل، ونحو ذلك. وهذه الصور وما شابهها تدخل في دائرة الكذب المتوعد عليه بالعذاب الأليم.

الرابعة: ومن الصور المنتشرة في تعامل الناس أيضا: المدح والثناء فيما هو ليس موجودا في الممدوح، وذلك لابتغاء مصلحة معينة منه، ويظن أن هذا الأسلوب الكاذب هو الذي يحقق له نيل مصلحته، والحصول على بغيته، وما يعلم أن حبل الكذب قصير، وأجله محدود، وصفته تلصق بصاحبها.

أخي المسلم: ومن صور التعامل فيما يجري بين الناس كثيرة، ولكن فيما مضى دلالة على الباقي، ويكفي أن نختم هذا الدرس بتحذير النبي صلى الله عليه وسلم  من الكذب عموما، وفي جميع صوره. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا».

أخي المسلم: إذا كان الكذب في هذه المنزلة، فكيف هو في رمضان؟ لا شك أن الأمر أشد، والجرم أخطر.

نسأل الله السلامة والعافية، كما نسأله جل وعلا أن يعصمنا من الزلل في الأقوال والأعمال، إنه قريب مجيب.



بحث عن بحث