الدرس الخامس والعشرون

الإنفاق والزكاة ( 2 )

الحمد لله الذي أنعم علينا بالأموال وشرع لنا تصريفها بالطرق الحلال، فيما يرضي الكبير المتعال، وصلى الله على نبينا محمد صاحب أفضل الخصال، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل، أما بعد:

فقد تحدثنا في الدرس عن أهمية الزكاة في الإسلام وضرورة الإنفاق في سبيل الله، والفضل العظيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى للمنفقين أموالهم في السراء والضراء، والوعيد الشديد لمن بخل وشح وأمسك ماله. في هذا الدرس نواصل الحديث في الموضوع نفسه ولنا فيه وقفات أخرى : -

الوقفة الأولى: إن من أهم شروط إخراج الزكاة النية الصالحة فالأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، ولقوله تعالى: [ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ][النساء: 110]. فعلى المسلم أن يعتني بالإخلاص والتجرد بإخراج ماله، فلا يبغي بذلك رياء ولا سمعة فإنها بذلك تكون عليهم حسرة ووبالا، وقد ذكر رسول الله ق أن الذين يبتغون الرياء والسمعة وغير ذلك من المقاصد الدنيوية يعرضون أنفسهم لخطر عظيم فقد روي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه  أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه ثلاثة. وذكر منهم: رجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار».

ومما يساعد على الإخلاص الإسرار في إخراجها فهو يبعد عن الرياء والسمعة وأدعى للتجرد، وعدم ذل الفقير، وقد ورد أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.

الوقفة الثانية: أن يتحرى مخرج الزكاة بأن يعطيها مستحقيها وهم أهلها الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه في قوله تعالى: [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ]   [التوبة:60] فاحذر أخي المسلم أن تخرج زكاة مالك لغير هؤلاء الأصناف الثمانية،  وحاول جهدك واستطاعتك أن توصلها إلى من ينتفع بها أكثر من غيرهم، وبخاصة أهل التقوى الذين لا يمدون أيديهم ولا يسألون الناس إلحافا وتزداد خصوصية إن كانوا طلبة علم فإن في إعطائهم إعانة لهم على العلم ونشر الدين ولا يتعلل المخرج بأن لا يجدهم بل بالبحث والسؤال والتحري يجد بغيته فلا تفرط في ذلك فإن هذا الأمر دين وإن من المؤسف أن نرى بعض الناس اعتاد أن يعطي زكاة ماله أناسا لا يستحقونها كأن يكونوا أغنياء ويعلل ذلك بأنها عادة لا يريد أن يقطعها، والبعض الآخر يعطيها أشخاصا يتظاهرون بالفقر والمسكنة مع أن لديهم قدرة على التكسب والعمل لكنه وجد الراحة بأخذ الزكاة، والبعض الآخر يعطيها بعض الأقارب الذين تجب نفقتهم عليه.

فهؤلاء وأمثالهم لا يستحقون الزكاة ومن علم عنهم قبل إعطائهم الزكاة فلا تسقط عنهم، ومن الجدير ذكره هنا أن الزكاة ينبغي أن تصرف على الأقارب الذين لا تجب نفقتهم على المزكي ففي ذلك البر والصدقة، وينبغي كذلك أن تصرف على المجاهدين في سبيل الله وهذه أيضا صدقة وجهاد ولعل من الأولى أن يوزع زكاة ماله على أصناف متعددين من الأصناف الثمانية لتعم فائدتها ونفقتها .

الوقفة الثالثة: أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وما كان حلالا فالله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، ويقول سبحانه وتعالى: [وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ] [البقرة:267] ويقول سبحانه: [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ][آل عمران:92] وروى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: كان أبوطلحة رضي الله عنه  أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يشرب من ماء فيه طيب، قال أنس: لما نزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ] جاء أبوطلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: يا رسول الله: إن الله تعالى أنزل عليك:    [ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، إنها صدقة لله تعالى أرجوا برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أمرك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بخ بخ ذاك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمه.

الوقفة الرابعة: أن يحاول المعطي والمزكي استصغار عطيته، فإن المستعظم للفعل معجب به، والإعجاب من داء النفس الذي إذا دخل عليها أفسدها، وإذا مازج القلب أفسد الإخلاص، ومما يساعد على ذلك شعور المزكي بان المال مال الله وهو وديعة عنده فالفضل في ذلك كله لله عز وجل، وليشكر الله تعالى بقوله وعمله على ما أنعم عليه بهذا المال وعلى ما يسر له أداء حقه.

الوقفة الخامسة : أن لا يفسد زكاته بالمن والأذى، ذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه محسنا إلى فقير منعما عليه بإعطائه ربما حصل منه ذلك، ولكنه لو حقق النظر لرأى الفقير محسنا بقبول حق الله الذي هو طهر له، وإذا استحضر مع ذلك أن إخراجه للزكاة شكر لنعمة الله الذي أعطاه، فلا يبقى بينه وبين الفقير معاملة، ولا ينبغي أن يحتقر الفقير لفقره لأن التفاضل ليس بالمال، ولا النقص بعدمه.

الوقفة الأخيرة: أن يحاول المسلم أن ينفق مما لديه مهما كان قليلا ولو لم تجب عليه الزكاة، وسواء انفق للفقراء والمساكين، أو في مشاريع الخير المتعددة كتحفيظ القرآن الكريم، والإسهام في جمعيات البر الخيرية، وبناية المساجد، والتبرع للمجاهدين، ورعاية الأيتام، وغيرها، وكل هذا مخلوف عند الله سبحانه وتعالى: [ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] [سبأ:39]، ويقول سبحانه: [ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] [المزَّمل:20]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة».

ولكن من المؤسف أن ترى أقواما يسرفون على أنفسهم في الإنفاق في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومركبهم وإذا نودي للخير والمساهمة فيه بخل وأمسك إلا إذا كان يرجو من وراء ذلك مصلحة معينة فهذا وأمثاله قد عرّضوا أنفسهم لخطر عظيم في الدنيا والآخرة ولم يعلم بأن الله تعالى سائله غدا عن هذا المال، من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟

أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال وأن يصلح ما فسد من الأقوال إنه سميع قريب. 



بحث عن بحث