ومن أهم عوامل حفظ الصحابة للحديث

1 – أن البساطة في العيش وقلة الاختلاط مع الناس يولد نوعًا من صفاء الذهن وقوة الحفظ والذاكرة بالإضافة إلى أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ومعظم علومها تعتمد في الدرجة الأولى على الحفظ، لذا كان من حفظهم ما يضرب به المثل وتناقلته الأجيال عبر التاريخ، مثل أولئك الذين كانوا يحفظون المعلقات الشعرية الطويلة، وكذلك معرفتهم بالأنساب والقبائل والأماكن وغيرها لدليل على تمكن هؤلاء العرب من القدرة على الحفظ دون عوائق، ومن الخطأ الفادح مقارنة العقل البشري المعاصر بعقول تلك العصور من رسالة الإسلام، ومن يقارن ويشابه بينما ويطبق عليهما الدراسات والأبحاث فإنه سوف يصطدم بعقبات علمية كبيرة، وينزلق في مهاوي الجهل والظلام، وهذا ما وقع فيه المستشرقون الذين قارنوا بين حاضرهم اليوم وماضي هذه الأمة في القرون الأولى لهذا الدين، فشلت دراساتهم.

2 – أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مع الصحابة، الذي تميز بالهدوء والأناة، وقِصَر جُمَله وإعادته للجملة الواحدة عدة مرات مما كان له الأثر الواضح في تمكين السامعين من حفظه وتدبره، تقول أم المؤمنين عائشة ك: «كان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه». وقالت أيضًا: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام يبينه فصل يحفظه من جلس إليه».

3 – إيمان الصحابة والتابعين ومن بعدهم بحقيقة هذا الدين وحقيقة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وحرصهم الشديد على حفظ منابعه ومصادره من الجفاف، واعتقادهم بأن هذا الدين بمصادره الرئيسة هو سبب سعادة البشرية ونصرها في الدنيا والآخرة، فحفظوا السنة النبوية بهذا الدافع الإيماني القوي، ولاسيما وأن الله تعالى قد نبّه المؤمنين إلى مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته في الدين، كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:31] . وقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59].وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7].

 وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه والتحاكم إليه، ولا يتم ذلك بعد وفاته إلا بحفظ سنته الصحيحة وتجريدها مما ليس منها من أقوال الناس وآثارهم.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لصحابته: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلغها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».

من أجل ذلك كله وجد المسلمون أنه من الواجب عليهم جمع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الشكل الذي بين أيدينا وحفظها وحمايتها والدفاع عنها.

4 – أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة بكتابة الحديث، حتى يكون لهم مرجعًا آخر بعد القرآن في المستقبل، وهذا ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه : «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب».

ثم لا بد من ذكر الأسباب الحقيقية لوضع الأحاديث وهي بإيجاز:

1 – الخلافات السياسية: وذلك من أجل أن يثبت كل فريق أحقيته بالخلافة أفضليته بالاتباع، وكان من أكثر الذين وضعوا الأحاديث هم الرافضة، حتى سئل الإمام مالك عنهم فقال: «لا تكلموهم ولا ترووا عنهم فإنهم يكذبون» وقال الشافعي: «ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة».

ويكفي ما قال عنهم الخليلي في الإرشاد: «وضعت الرافضة في فضائل علي وأهل بيته ثلاثمائة ألف حديث»، ومن أشهر الأحاديث الموضوعة حديث الوصية في غدير خم، والذي يروي فيه الرافضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بعد رجوعه من حجة الوداع وقال للصحابة: «هذا وصيي وأخي والخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا» وقد كذّب أهل السنة هذا الحديث وعدّوه في الموضوعات.

وبالمقابل ظهرت بعض الأحاديث الموضوعة من بعض المتعصبين من الأمويين مثل: «الأمناء ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية» وحديث: «أنت مني يا معاوية وأنا منك».

2 – الزندقة: وقد ظهرت بعد أن فتحت البلاد وتوسعت سيطرة الخلافة الإسلامية، وصارت للدين شوكة ومنعة، وتنعم الناس في ظل الدين بالأمن والاستقرار، فلم يستطع أعداء الدين النيل منه علنًا أو مواجهة، وإنما اتخذوا سبيلاً آخر، وذلك بالدخول في الإسلام وتمزيق صفه من الداخل، فتستر هؤلاء بالتصوف والزهد والتشيع وغيرها، ووضعوا آلاف الأحاديث للطعن في الدين، ومن هذه الأحاديث الموضوعة: «ينزل ربنا عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة» و«خلق الله الملائكة من شعر ذراعيه وصدره». وقد لاحق بعض خلفاء بني العباس هؤلاء الزنادقة وقتلوهم وحبسوهم، حتى ضعفت شوكتهم وتم القضاء عليهم نهائيا.

3 – القصص والوعظ: حيث ظهرت حركة للقصاص الذين يجتمع حولهم الناس ليسمعوا رواياتهم وقصصهم ووعظهم، وهم لا يتورعون أن يكذبوا ويضعوا الأحاديث في سبيل أن يجذبوا الناس إليهم، أو يبكوهم في مجالسهم، فيكسبوا بذلك جاهًا ومكانة، ومثل هذه الأحاديث: «من قال لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيرًا منقاره من ذهب وريشه من مرجان».

4 – الخلافات الفقهية والمذهبية: وهذه الخلافات أدت إلى أن يتعصب كل جماعة لمذهبهم وإمامهم، فوضعوا الأحاديث التي تساندهم، ومن ذلك القول المكذوب: «من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له».

5 – الجهل بالدين مع الرغبة بالخير: حيث قامت طائفة من العبّاد والزهاد بوضع الأحاديث ليرجعوا الناس إلى دين الله وكتابه، ظانين أن ذلك من العبادات المستحبة والأعمال الفاضلة، وقالوا إننا لم نكذب على رسول الله وإنما نكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

6 – التقرب إلى الأمراء والملوك: وذلك بوضع الأحاديث التي تناسب أوضاعهم وأحوالهم، وأهواءهم ورغباتهم، ومن ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم الذي دخل على المهدي وهو يلعب بالحَمَام فروى له الحديث المشهور «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» وزاد غياث «أو جناح» إرضاء للمهدي الذي منحه عشرة آلاف درهم، ثم قال بعد أن ولّى: «أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بذبح الحمام».

¡   ¡   ¡

هذا وإن علماء الأمة لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه الظاهرة الخطيرة التي تهدد أهم مصدر من مصادر التشريع، فقد بذلوا جهودًا عظيمة لتنقية السنة من الشوائب والزيادات والأكاذيب، ووضعوا قواعد وأسسًا ينهجون عليها، ومن ذلك:

1 – إسناد الحديث: لم تظهر متابعة الإسناد إلا بعد ظهور الفتنة وانقسام المسلمين، وبعد ظهور اليهودي عبدالله بن سبأ الذي دعا إلى تأليه علي رضي الله عنه ، فحينها لم يأخذ الصحابة الذي عاشوا إلى ذلك الوقت وكذلك التابعون من الأحاديث إلا ما عرف سنده، وهذه كانت الخطوة الأولى لتصفية الحديث من غيره، حتى قال ابن المبارك: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء».

2 – التأكد والتوثق من الأحاديث، وذلك بالرجوع إلى الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، فقد صار هؤلاء مرجعًا للناس عند سماعهم حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أقروا أخذوا به وإن لم يقروه ضربوه عرض الحائط. وقد سخر كثير من الناس أنفسهم لخدمة الحديث وذلك بالسفر من بلد إلى آخر للتحقق من صحة الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بين هؤلاء الإمام البخاري ومسلم وغيرهما ن جميعًا لما قاموا به من عمل جليل سيبقى ذخرًا للأمة إلى يوم الدين.

3 – نقد الرواة، وبيان حالهم من صدق أو كذب، وهذا الأصل كان من أهم الأصول التي اتبعوها في تنقية الأحاديث، حيث لم يحرجهم شيء في أن يقولوا عن الرواة ما فيهم من عيب أو كذب، وقد قيل ليحيى بن سعيد القطان: «أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمي أحب إليّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ لم تذب الكذب عن حديثي».

وهذا الإيجاز فيه بيان كاف للذين اتخذوا من ظهور وضع الأحاديث مطية يمتطون بها على السنة كلها، ويشككون فيها من كل الجهات والأطراف، ولكنهم خابوا وخسروا، وذهبت جهودهم وأقاويلهم مع رياح الحق التي أزهقتهم وأثبتت السنة الصحيحة.



بحث عن بحث