المراقبة

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم  يومًا فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

©  أهمية الحديث:

هذا الحديث عظيم الفائدة، جليل القدر، يحمل وصايا عظيمة، وفوائد مهمة بمراقبة العبد ربه، واستشعاره له، قال الإمام ابن رجب :: «هذا حديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا  الحديث، وقلة التفهم لمعناه». ا.هـ.

©  مسائل الحديث:

أولاً: من أصول التربية:

بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث بعض أصول التربية نعرضها فيما يلي:

1-   الاهتمام بتربية النشء، والحرص على ذلك منذ اللحظات المبكرة الأولى، وهذا الحديث يبين اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم  بتوجيه أمته وتنشئتها على العقيدة السليمة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك المستقيم، فنلحظ هنا أنه صلى الله عليه وسلم  حين ركب معه الغلام الصغير لقّنَه كلمات قليلة الألفاظ، كبيرة المعنى، لها آثارها العقدية والعملية على حياته.

2-   أهمية استعمال الأسلوب الحسن في تربية النشء؛ وذلك لما له من أثر على المتربي، فالرسول صلى الله عليه وسلم  جمع ذهن هذا الصغير، فابتدأه بما يرغبه فيه: «إني أعلمك كلمات» وهذا من باب التشويق والانتباه؛ لأجل أن يتنبه له المستمع.

3-   محاولة الإيجاز والاختصار في التعليمات التربوية الملقاة على الصغار، وهذه سمة وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمختصر مفهوم ومستوعب، والمطول يضيع بعضه بعضًا.

4-   الاهتمام بالأمور الكلية عقدية أو عملية، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم  هنا حيث أوصى هذا الصغير بهذه الوصايا الكبيرة التي تجمع عليه أمور الفلاح في الدنيا والآخرة.


ثانيًا: مراقبة الله:

مراقبة الله تعالى من أهم موضوعات هذا الحديث ونعرضها فيما يلي:

1-   مراقبة الله تعالى يعنى بها: أن يجعل العبد ربه نصب عينيه في جميع أموره الاعتقادية والعملية والأخلاقية والسلوكية، وفي جميع أقواله وسلوكه وتصرفاته ومعاملاته وأخلاقه، فمن فعل ذلك فقد حدد مساره الصحيح في هذه الحياة، فالتزم بشرع الله تعالى منهجًا له فيها.. وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم  عن هذا المعنى بحفظ الله فقال صلى الله عليه وسلم : «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» وفي رواية: «تجده أمامك».

2-   يقول الحافظ ابن رجب : في المراد بحفظ الله: «يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهي عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه، وقال الله ﻷ: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴿32 مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32 – 33]. وفسر الحفيظ هنا: بالحافظ لأوامره، وبالحفظ لذنوبه ليتوب منها».

3-   لأهمية هذه المراقبة لله ﻷ جاء عدد من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تحث على الاعتناء ببعض التعليمات الشرعية لحفظها وتعاهدها ومراقبة الله فيها، ومن ذلكم:

أ - المحافظة على الصلاة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

ب- المحافظة على الطهارة والوضوء، فعن ثوبان رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».

ج- المحافظة على الأيمان قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].

د- حفظ الرأس وما وعى، ويدخل فيه السمع والبصر.

هـ- حفظ البطن وما حوى، ويدخل فيه حفظ المأكولات والمشروبات المحرمة، كما يدخل فيه حفظ الفرج، فعن ابن مسعود رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى».

4- من ثمرات هذه المراقبة:

من راقب الله تعالى في جميع أحواله وتصرفاته، وعباداته وسلوكه نال بذلك خيري الدنيا والآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في هذا الحديث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك».

ويدخل في ذلك ما يلي:

أ – أن يحفظ الله في الدنيا، فيحفظه في بدنه، وولده، وأهله. قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].

ب- وكذا من حفظ الله وراقبه في صغره وشبابه وحال قوته؛ حفظ الله تعالى حال كبره وضعف قوته ومرضه، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.

ذكر ابن رجب : أن بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو متمتع بقوته وعقله، فوثب يومًا وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.

ج- أن يحفظه الله أيضًا في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة.

د- أن يحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على التوحيد والإيمان. ولأهمية هذا الحفظ كان النبي صلى الله عليه وسلم  يعلم أصحابه دعاء الحفظ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم  علمه أن يدعو بقوله: «اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تطع فيّ عدوًّا ولا حاسدا».

هـ - أن يحفظه الله تعالى بعد موته في القبر والحشر، يوم تتخلى عنه الأهل والأصحاب، والزوجة والأولاد، ويوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

الخلاصة:

أن من راقب الله تعالى في حياته، وراعى حقوقه، وحفظ حدوده، وجد الله تعالى معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره، ويحفظه، ويوفقه، ويسدده، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

5- تتأكد هذه المراقبة حال اليسر، والرخاء، والصحة، والنعمة، والقوة، والشباب، فقد جاء النص عنها بذاتها؛ لأن هذه الأمور مظنة غفلة الإنسان عن ربه، فمن راقب الله تعالى في هذه الأحوال، كان الله معه في الأحوال المضادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

6- من دلائل مراقبة العبد لربه:

أ – التعلق بالله في جميع الأحوال والظروف واللجوء إليه حال اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والقوة والضعف، والشباب والكبر.

ب- كثرة دعاء الله وسؤاله، وعدم دعاء غيره أو الإشراك معه في الدعاء والمسألة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

ج- الاستعانة بالله وحده في كل أحوال العبد قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

د- الوقوف عند حدوده وأوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالانتهاء ويجمع ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم  في الحديث: «وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله».

الحذر كل الحذر من الغفلة عن الله تعالى، واللهو حال الصحة، والفراغ، والغنى، فإذا وقعت الشدة وتذكر العبد حاجته إلى ربه يكون قد فاته الأوان، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

ثالثًا: الإيمان بالقضاء والقدر:

من مقتضيات مراقبة الله تعالى أن يؤمن العبد بما قضاه الله تعالى وقدره عليه في هذه الحياة. ولهذا جاء الربط بين حفظ الله تعالى لعبده وبين إيمانه بقضائه وقدره، فعندما ذكر حفظه لربه، وتعرفه عليه، وسؤاله إياه وحده قال صلى الله عليه وسلم : «واعلم أن الأمة إذا اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإذا اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

ونفصّل هذا فيما يلي:

1-   قال الحافظ ابن رجب: «إنَّ ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه فكله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعًا». وقد دلَّ القرآن على مثل هذا في قوله ﻷ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}[التوبة: 51]. فنعلم من هذا أن كل شيء يحصل في هذه الحياة مما يصيب الإنسان من خيرٍ أو شرٍّ إنما هو بتقدير الله سبحانه وتعالى. فعلى المسلم أن يؤمن بذلك تمام الإيمان.

2-   الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره ركن من أركان الإيمان الستة لا يتم إيمان العبد إلا به، وقد عبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم  في حديث جبريل المشهور: «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره».

3-   الموقف الصحيح للمؤمن تجاه أقدار الله المؤلمة على درجات منها:

أ- الصبر على ما قدّره تعالى عليه فلا يضجر من التكاليف الشرعية، أو يقلق من المنهيات الشرعية، أو يجزع تجاه المصائب التي تجري عليه، ومن كان كذلك ناله ما أعده الله تعالى للصابرين، ومن ذلك أنه لا حَدّ لأجرهم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

ب- أعلى من ذلك الرضا والاطمئنان، وهذا ما كان يسأله النبي صلى الله عليه وسلم  ربه ﻷ كما جاء ذلك عنه في دعائه صلى الله عليه وسلم : «وأسألك الرضا بعد القضاء».

ج- وأعلى منها شكر الله سبحانه على ذلك، حيث يعلم تمام العلم أن هذه المصائب ترفع درجاته وتكفر سيئاته، فيحمد الله على ذلك ويشكره ويسأله الثبات على ذلك.

4-   من مقتضيات الإيمان بالقضاء والقدر: أن يعلم العبد أن أحوال الإنسان لا تستقر على حال ثابتة رخاءً وشدة، يسرًا وعسرًا، فهي متقلبة، وهذا يزيد من ينقينه بربه وإيمانه به، ومن لطف الله وحكمته أنه لا يغلب العسر دائمًا، فما حصلت شدة إلا وأعقبها فرج من الله سبحانه وتعالى قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 – 6].

وهذا بلا شك ييسر على المسلم تحمله للمصائب وعدم ضجره وقلقه.



بحث عن بحث