لا يرتاب عاقل أن الحفظ من أعظم أسباب تحصيل العلم، لذا قال بعض العلماء: «العلم هو الحفظ»، وقال بعضهم: «لا خير في علم لا يعبر معك الوادي، ولا يمر بك النادي» ولقد ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثلة في الحفظ، فهذا عامر الشعبي : يقول: «ما كتبت سوداء في بيضاء قط، ولا استعدت حديثا من إنسان مرتين».

                         والحفظ قد يكون شاقًّا في البداية، لكن إذا اعتاده الإنسان سهل عليه، يقول الزهري: «إن الرجل ليطلب العلم وقلبه شعب من الشعاب، ثم لا يلبث أن يصير واديًا لا يوضع فيه شيء إلا التهمه».

                         وقد سئل الإمام أحمد: ما الحفظ؟ قال: «الإتقان هو الحفظ»، وقال عبد الرحمن بن مهدي :: الحفظ الإتقان.

                         يقول ابن الجوزي: «ينبغي لطالب العلم أن تكون جل همته مصروفة إلى الحفظ والإعادة، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى».

                         ويقول الخليل بن أحمد مبينًا أهمية الحفظ: «الاحتفاظ بما في صدرك أولى من درس ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للتفقه)، والحفظ هو ما يوضع في الوعاء الذي يمثل طالب العلم، ولا يستمر العلم مع الإنسان ويثبت إلا بالحفظ.

¤   الدين كله قائم على التلقي - كما سبق ذكره - وعلى الحفظ، فالمسلم في صلاته مقرر عليه أن يحفظ الفاتحة، وماذا يقوله في الركوع والسجود والقيام وغير ذلك.

وقد سار السلف على هذا الأصل في تلقي العلم، واستمروا عليه وندبوا إليه، قال الإمام عبد الرزاق: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علمًا، يعني أنه في صور صاحبه.

ليس العلم ما حوى القمطر

  ما العلم إلا ما حواه الصدر

وروى الشيخان عن ابن عمر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت».

قال ابن عبد البر :: وفي هذا الحديث دليل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه.

وإذا كان القرآن الميسر للذكر إن لم يتعاهده انفلت فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة، وخير العلوم ما ضبط أصله واستذكر فرعه.

وقال ابن القيم :: للعلم ست مراتب:

1-   حسن السؤال.

2-   وحسن الإنصات والاستماع.

3-   وحسن الفهم.

4-   تعاهده وحفظه حتى لا ينساه فيذهب.

5-   التعليم.

6-   وهي ثمرته؛ العمل به ومراعاة حدوده.

وهنا يرد سؤال: ما المراد بالحفظ؟ بمعنى: ما الذي يحفظه؟

وهذا سؤال مهم: فالسلف رحمهم الله ساروا على حفظ القرآن أولًا كما ذكرناه في فقرة مستقلة، ثم حفظ شيء من السنة؛ ابتداءً بالأربعين النووية كما سيأتي تفصيله، وحفظ متن من متون العلم في الفقه، والعقيدة، والفرائض، والنحو، وأصول الفقه، وأصول التفسير، ومصطلح الحديث. هذا هو التأسيس، وهذه هي القاعدة، فمن رام ذلك فقد رام خيرًا كثيرًا ويبشّر بمستقبل علمي زاهر مع تأصيل محمود.

p   ولعل من المفيد أن نذكر بعض الأسباب المعينة على الحفظ وهي:

1-   تقوى الله سبحانه وطاعته، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] اختيار الأوقات.

2-   تكرار المحفوظ، وسئل البخاري عن سبب حفظه فقال ما معناه: «لم أجد أنفع من مداومة النظر».

وكان أبو إسحاق الشيرازي إذا أراد أن يحفظ درسًا أعاده مئة مرة.

3-   اختيار الأوقات المناسبة، وأنسبها ما كان بعد نوم.

4-   تجنب الجلوس عند المشغلات.

5-   الاطمئنان النفسي له دور مهم في الحفظ، ولذا يختار الإنسان الأوقات التي يكون فيها مطمئن النفس الصافي الذهن.

6-   اتخاذ القرين الجاد وتبادل المحفوظات معه، وذلك أدعى لرسوخه.

7-   العمل بما تحفظ، وكان إسماعيل بن إبراهيم يقول: «كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به».

8-   تعليم العلم للناس ونشره.

9-   المداومة ولو على القليل، ولعل من الحكمة في نزول القرآن منجمًا أنه أثبت في الحفظ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، وكان الصحابة يحفظون عشر آيات ويفقهونها ويعملون بها، ثم يأخذون العشر التي تليها وهكذا.

وقال حماد بن أبي سليمان لتلميذ له: «تعلم كل يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها». وقال صلى الله عليه وسلم : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ».

10-الحجامة: جاء في الحديث الحسن عن ابن ماجه والحاكم مرفوعًا من حديث ابن عمر: «الحجامة على الريق أمثل، وفيها شفاء وبركة، وتزيد في الحفظ وفي العقل».

p   معوقات الحفظ:

1-   المعاصي: قال الشافعي ::

شكوت إلى وكيع سوء حفظي
وقال اعلم بأن العلم نور

  فأرشدني إلى ترك المعاصي
ونور الله لا يؤتاه عاصي

2-   كثرة الهموم: ولذا ينصح طالب العلم أثناء الطلب والتحصيل بعدم الانشغال بأعمال أخرى تأخذ حيزًا من تفكيره فتكثر همومه فتغلب على طلب العلم.

3-   كثرة النظر للصور عمومًا: وخاصة الصور المحرمة أو الصور التي لا تنسى.

4-   ضياع الأوقات وعدم التفرغ للطلب والحفظ فيعطي العلم فضول أوقاته.

5-   كثرة الأكل والشرب فتشتغل الدورة الدموية بمساعدة البطن على هضم الطعام فتضعف الذاكرة.

6-   الاشتغال بالملهيات وفضول الأعمال، فينشغل الذهن عن المهمات فيضعف ويكل، ولا يقبل الجد، فهو وعاء إذا امتلأ بالفضول استغنى عن الفاضل.

7-   مصاحبة البطالين، وسرّاق الوقت، وضعيفي الهمة، فيؤثّرون على الجادّ، ويسرقون وقته، ويشعلونه فلا يبقى له وقت في الحفظ والمراجعة والمذاكرة.

الانصياع للتقنيات الحديثة وإشغال الوقت بها كالإنترنت والفضائيات ونحوها.



بحث عن بحث