إن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان على فطرة الإسلام، كما جاء في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ ا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الروم:30].

ولكن شياطين الإنس والجن توقعهم في مزالق الشرك والكفر والبدعة والمعصية، كما جاء في حديث آخر عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ المُجَاشِعِيِّ: أَنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُم الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِل بِهِ سُلطَانًا». الحديث.

وهذا من حكمة الله تعالى البالغة، حيث أراد سبحانه ابتلاء بني آدم، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴿2إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سورة الإنسان:2-3]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة هود:7].

ولكن إذا تجاوز الماء الرأس، وانتشرت الضلالات والأباطيل، وصار الأمر لأتباع الشياطين، أرسل الله من عباده الصالحين رسلًا وأنبياء يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ومن المفاسد إلى المصالح، ومن الضلال إلى الهدى، فمنهم من بعث بشريعة جديدة، ومنهم من بعث بشريعة من قبله، حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين محمد  صلى الله عليه وسلم ، فختم الله به الرسالات، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة، عَن النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُم الأَنْبِيَاءُ؛ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».

وفي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ا: أَنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ».

ففتح الله به قلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا، ورفعت راية التوحيد على أرجاء المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولكن من سنة الله تعالى في هذا الكون أن لا يبقى شيء على حالة واحدة، فيطرأ عليها بمرور الزمن ما يكدر صفاءها، وتبدأ عوامل الانحراف تتسرب إليها شيئًا فشيئًا، فمن فضل الله على هذه الأمة أن يبعث فيهم على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها، فيبعد عن هذا الدين ما علق به من آراء ضالة، وأفكار شاذة، ومفهومات منحرفة، ويجلي الحقائق الملتبسة، ويحيي الفرائض المعطلة، وينفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهذا من عظيم فضله وامتنانه على هذه الأمة.

يقول المناوي :: «وذلك لأنه سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد، ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها بل لا بد من طريق وافٍ بشأنها، اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث إجراء لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم».

فهذا الحديث من البشائر العظيمة للمسلمين، حيث إنه يمنح المسلم الصادق ثقةً قويةً بدينه، وطاقة من الأمل الأكيد بنصر الله لعباده المؤمنين، كما يمنحه دفعةً قويةً للعمل والبذل والتضحية رجاء أن يكتب الله له حظًا من أجر المجددين.

وأما قوله: «على رأس كل مائة سنة»: يفهم من لفظ الحديث: أن الله يبعث في كل قرن من الزمان من يجدد الدين لهذه الأمة، والرأس يطلق على أول الشيء وعلى آخره.

قال ابن منظور: «رأس كل شيء أعلاه، والجمع في القلة أرؤس وآراس على القلب، ورؤوس في الكثير».

وقال الجوهري: «قولهم: أنت على رئاس أمرك أي: أوله».

ويأتي أيضًا بمعنى آخر الشيء، كما جاء في تاج العروس: رَأْس الشَّيْء طَرَفه, وَقِيلَ آخِره. وَعَلَيْهِ يحمل حَدِيث ابن عُمَر: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّ عَلَى رَأْس مِائَة سَنَة مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْر الأَرْض أَحَد», فعن عَبْد الله بْن عُمَرَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم  ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ العِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ, قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فوهل النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ الله  صلى الله عليه وسلم  تِلكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ, وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ؛ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ القَرْنُ».

فَالمُرَاد مِنْ رَأْس المِائَة فِي هَذَا الحَدِيث هُوَ آخِر المِائَة. قَالَ الحَافِظ ابن حجر رحمه الله فِي فَتْح البَارِي فِي تَفْسِير رَأْس مِائَة سَنَة: «مُرَاده أَنَّ عِنْدَ انْقِضَاء مِائَة سَنَة مِنْ مَقَالَته تِلكَ يَنْخَرِمُ ذَلِكَ القَرْن فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ تِلكَ المَقَالَة, وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِالاسْتِقْرَاءِ, فَكَانَ آخِرَ مَنْ ضُبِطَ أَمْرُهُ مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَئِذٍ أَبُو الطُّفَيْل عَامِر بن وَاثِلَةَ, وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الصَّحَابَة مَوْتًا, وَغَايَة مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ بَقِيَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ, وَهِيَ رَأْس مِائَة سَنَة مِنْ مَقَالَة النَّبِيّ  صلى الله عليه وسلم  , والله أَعْلَم».

قال صاحب العون: «فَلَوْ لَمْ يَكُن المُرَاد مِنْ رَأْس المِائَة آخِرهَا بَل كَانَ المُرَاد أَوَّلهَا لما عَدُّوا عُمَر بن عَبْد العَزِيز مِن المُجَدِّدِينَ عَلَى رَأْس المِائَة الأُولَى, وَلَا الإِمَام الشَّافِعِيّ عَلَى رَأْس المِائَة الثَّانِيَة, لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وِلَادَة عُمَر بْن عَبْد العَزِيز عَلَى رَأْس المِائَة الأُولَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُون مُجَدِّدًا عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وِلَادَة الشَّافِعِيّ عَلَى رَأْس المِائَة الثَّانِيَة, فَكَيْف يَصِحّ كَوْنه مُجَدِّدًا عَلَيْهِ...فَإِذَنْ ظَهَرَ حَقّ الظُّهُور أَنَّ المُرَاد مِنْ رَأْس كُلّ مِائَة: آخِر كُلّ مِائَة».

r  وقت بعث المجدد:

إن الحديث يشير إلى أن المجدد يبعث على رأس المائة، وقد قال به جمهور العلماء، يقول الكرماني: «قد كان قبيل كل مائة أيضًا من يصحِّح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه»، فيفهم من قوله أن من الضوابط لكونه مجددًا: أن يبعث على رأس المائة، وهنا ينبغي التفطن لأمر هام، وهو: أن كل من تكلم على حديث: «إن الله يبعث» إلخ إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن, يكون موته على رأسه, وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو أن البعث وهو الإرسال يكون على رأس القرن أي أوله، ومعنى إرسال العالم تأهله للتصدي لنفع الأنام، وانتصابه لنشر الأحكام، وموته على رأس القرن أخذ لا بعث. يقول الطيبي: «المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور مشار إليه».

وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي قَصِيدَته فِي المُجَدِّدِينَ:

وَالشَّرْط فِي ذَلِكَ أَنْ يَمْضِي المِائَة
وَهُوَ عَـلَى حَيَاته بَيْـن الفِئَة

  يُشَـار بِـالعِلـمِ إِلَى مَقَـامـه
وَيَنْشُـر السُّنَّـة فِي كَلَامـه

وَقَالَ فِي مِرْقَاة الصُّعُود نَقْلًا عَن ابن الأَثِير: «وَإِنَّمَا المُرَاد بِالمَذْكُورِ مَن انْقَضَت المِائَة وَهُوَ حَيّ مَعْلُوم مَشْهُور مُشَار إِلَيْهِ».

وقال ابن الأثير: «وإنما المراد بالذكر من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور مشار إليه».

فليس المراد أن تكون وفاة المجدد عند نهاية القرن؛ لأن كلمة «البعث» تدل على الإرسال والإظهار، والوفاة قبض وأخذ، بل المراد أن تأتي نهاية القرن على المجدد وهو حي يقوم بعمل التجديد، ويتصدى للإصلاح, قد اشتهر بذلك وعرف عنه. وهذا لا يتأتى غالبًا إلا بعد مضي فترة غير قصيرة، وبعد تقدم السن غالبًا، فلهذا قد تختتم حياة المجدد قريبًا من نهاية القرن.

وتطبيقًا لهذه القاعدة لم يعد السلف كثيرًا من المشهورين في أثناء القرن في عداد المجددين، مثل الإمام أحمد بن حنبل, مع جهوده العلمية ومرتبته المشرقة لم يذكره العلماء أمثال ابن عساكر, أو ابن الأثير، أو السيوطي، أو الزين العراقي في قائمة المجددين.

فنهاية القرن هي التوقيت الزمني لكل دورة من دورات التجديد، وهو وقت يحتاج إلى التجديد غالبًا، يقول المناوي: «وذلك لأن الله سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل, وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد, ومعرفة أحكام الدين لازمةً إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها، بل لا بد من طريق واف بشأنها, اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث؛ إجراءً لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم».

كما أن هناك رأيًا آخر، وهو: أن تحديد وقت بعث المجدد برأس المائة ليس المراد منه التخصيص، وإنما ذكر اتفاقًا، وعلى هذا الرأي يمكن أن يكون المجدد في أول المائة، أو وسطها، أو آخرها، وبخاصة أنه قد يكون في أثناء القرن من هو أفضل وأحق بلقب المجدد ممن هو في رأس القرن، ولو كان هذا الرأي مستندًا إلى دليل صحيح كانت دائرة التجديد أوسع، ولدخل كثير من العلماء ممن لم يدركوا رأس المائة في أعداد المجددين، ولكن لم يقتنع بوجاهة هذا الرأي أحد، ولم يجد له أصحابه دليلًا يسنده، ولا ريب أن ذكر رأس المائة أو نهاية القرن مقصود به التحديد؛ إذ لا توجد قرينة تجعل هذا التوقيت قابلًا للاحتمالات المختلفة.



بحث عن بحث