m   مما سبق اتضح لنا أن هذه الأمة من أفضل الأمم، كيف لا وهي أمة محمد  صلى الله عليه وسلم  أفضل الأنبياء والرسل على الإطلاق؟! قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران:110].

r  وإليكم بعض فضائل هذه الأمة:

m   فهذه الأمة سابقة على الأمم الأخرى يوم القيامة، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن هُرْمُزَ الأَعْرَج مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ, حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ا: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ, بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا, ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُم الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ, فَهَدَانَا الله, فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ؛ اليَهُودُ صلى الله عليه وسلم دًا, وَالنَّصَارَى بَعْدَ صلى الله عليه وسلم دٍ».

قال ابن حجر: «وَالمُرَاد أَنَّ هَذِهِ الأُمَّة وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُودهَا فِي الدُّنْيَا عَن الأُمَم المَاضِيَة فَهِيَ سَابِقَة لَهُمْ فِي الآخِرَة. وَقِيلَ: المُرَاد بِالسَّبْقِ هُنَا إِحْرَاز فَضِيلَة اليَوْم السَّابِق بِالفَضْلِ, وَهُوَ يَوْم الجُمُعَة, وَيَوْم الجُمُعَة وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا بِسَبْتٍ قَبْله أَوْ أَحَدٍ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّر اِجْتِمَاع الأَيَّام الثَّلَاثَة مُتَوَالِيَة إِلَّا وَيَكُون يَوْم الجُمُعَة سَابِقًا. وَقِيلَ: المُرَاد بِالسَّبْقِ أيْ إِلَى القَبُول وَالطَّاعَة الَّتِي حُرِمَهَا أَهْل الكِتَاب فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا, وَالأَوَّل أَقْوَى... وَفِيهِ بَيَان وَاضِح لِمَزِيدِ فَضْل هَذِهِ الأُمَّة عَلَى الأُمَم السَّابِقَة».

m   وأنها أول من يقضى بينهم يوم القيامة؛ فعَنْ حُذَيْفَةَ ا أنه قال: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «أَضَلَّ الله عَن الجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا, فَكَانَ لِليَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ, وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ, فَجَاءَ الله بِنَا فَهَدَانَا الله لِيَوْمِ الجُمُعَةِ, فَجَعَلَ الجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالأَحَدَ, وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ القِيَامَةِ, نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا, وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ, المَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الخَلَائِقِ», وَفِي رِوَايَةِ وَاصِلٍ: «المَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ».

m   وأنها أول من يدخل الجنة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ, وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ, بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, فَاخْتَلَفُوا, فَهَدَانَا الله لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِن الحَقِّ, فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ هَدَانَا الله لَهُ, قَالَ: يَوْمُ الجُمُعَةِ: فَاليَوْمَ لَنَا, وَغَدًا لِليَهُودِ, وَبَعْدَ صلى الله عليه وسلم دٍ لِلنَّصَارَى».

m   وأنها تشهد على الأنبياء السابقين بأنهم بلّغوا الرسالة؛ كما جاء في الحديث، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ الله تَعَالَى: هَل بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لِأُمَّتِهِ: هَل بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا! مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ. فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم  وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]» وَالوَسَطُ: العَدْلُ .

وفي رواية ابن ماجه توضيح أكثر من هذا، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «يَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ، فَيُقَالُ لَهُ: هَل بَلَّغْتَ قَوْمَكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ: هَل بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لَا. فَيُقَالُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، فَيُقَالُ: هَل بَلَّغَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: وَمَا عِلمُكُمْ بِذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ. قَالَ: {فَذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]».

m   وأنها أكثر أهل الجنة بحيث تكون نصف أهل الجنة، كما بشر به نبينا محمد  صلى الله عليه وسلم  ، فعن عَبْدِ الله بن مسعود ا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قَالَ: فَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قَالَ: فَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ, وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: مَا المُسْلِمُونَ فِي الكُفَّارِ إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ, أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ».

قال النووي: «أمَّا تَكْبِيرهمْ فَلِسُرُورِهِمْ بِهَذِهِ البِشَارَة العَظِيمَة, وَأَمَّا قَوْله  صلى الله عليه وسلم : «رُبْع أَهْل الجَنَّة, ثُمَّ ثُلُث أَهْل الجَنَّة, ثُمَّ الشَّطْر, وَلَمْ يَقُل أَوَّلًا: «شَطْر أَهْل الجَنَّة» فَلِفَائِدَةٍ حَسَنَة؛ وَهِيَ: أَنَّ ذَلِكَ أَوْقَع فِي نُفُوسهمْ، وَأَبْلَغ فِي إِكْرَامهمْ, فَإِنَّ إِعْطَاء الإِنْسَان مَرَّة بَعْد أُخْرَى دَلِيل عَلَى الاعْتِنَاء بِهِ وَدَوَام مُلَاحَظَته, وَفِيهِ فَائِدَة أُخْرَى هِيَ تَكْرِير البِشَارَة مَرَّة بَعْد أُخْرَى, وَفِيهِ أَيْضًا حَمْلهمْ عَلَى تَجْدِيد شُكْر الله تَعَالَى وَتَكْبِيره وَحَمْده عَلَى كَثْرَة نِعَمه. وَالله أَعْلَم».

تفصيل آخر في رواية البخاري: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ا قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ: يَا آدَمُ! يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلفٍ -أُرَاهُ قَالَ- تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الحَامِلُ حَمْلَهَا، وَيَشِيبُ الوَلِيدُ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي جَنْبِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا. ثُمَّ قَالَ: شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا».

أيضًا: َقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيث الآخَر أَنَّ أَهْل الجَنَّة عِشْرُونَ وَمِائَة صَفّ، هَذِهِ الأُمَّة مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا, فعن بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ, ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ, وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ».

قال صاحب التحفة في شرح هذا الحديث: «وَالمَقْصُودُ بَيَانُ تَكْثِيرِ هَذِهِ الأُمَّةِ, وَأَنَّهُمْ ثُلُثَانِ فِي القِسْمَةِ».

وقال النووي: «فَهَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ ثُلُثَيْ أَهْل الجَنَّة, فَيَكُون النَّبِيّ  صلى الله عليه وسلم  أَخْبَرَ أَوَّلًا بِحَدِيثِ الشَّطْر, ثُمَّ تَفَضَّلَ اللَّه سُبْحَانه بِالزِّيَادَةِ, فَأُعْلِمَ بِحَدِيثِ الصُّفُوف فَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيّ  صلى الله عليه وسلم  بَعْد ذَلِكَ».

m   وأنها ستتمتع بشفاعة نبيها صلى الله عليه وسلم  يوم القيامة؛ فعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله  صلى الله عليه وسلم  مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ المَدِينَةَ, فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ عَزْوَرَا نَزَلَ, ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا الله سَاعَةً, ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلًا, ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا الله سَاعَةً, ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلًا, ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا, ذَكَرَهُ أَحْمَدُ ثَلَاثًا, قَالَ: «إِنِّي سَأَلتُ رَبِّي وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي؛ فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي, ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي شُكْرًا, ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الآخِرَ؛ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي».

قال صاحب العون: «أي: فَأَعْطَانِيهِمْ فَلَا يَجِب عَلَيْهِم الخُلُود, وَتَنَالهُمْ شَفَاعَتِي فَلَا يَكُونُونَ كَالأُمَمِ السَّالِفَة, فَإِنَّ مَنْ عُذِّبَ مِنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِم الخُلُود, وَكَثِير مِنْهُمْ لُعِنُوا لِعِصْيَانِهِمْ أَنْبِيَائَهُمْ فَلَمْ تَنَلهُم الشَّفَاعَة, وَالعُصَاة مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مَنْ عُوقِبَ مِنْهُمْ نُقِّيَ وَهُذِّبَ, وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ يُخْرَج مِن النَّار وَإِنْ عُذِّبَ بِهَا، وَتَنَالهُ الشَّفَاعَة وَإِن اجْتَرَحَ الكَبَائِر, وَيَتَجَاوَز عَنْهُمْ مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورهمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا, إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِن الخَصَائِص الَّتِي خَصَّ الله تَعَالَى هَذِهِ الأُمَّة كَرَامَة لِنَبِيِّهِ  صلى الله عليه وسلم ».

وفي المسند عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم  لَيْلَةً, فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ, يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا زِلتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا؟ قَالَ: «إِنِّي سَأَلتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا, وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ الله لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِالله عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا».

m   وإنها لا تهلك بأكملها، كما جاء في الحديث عن سعد بن أبي وقاص أَنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِن العَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ  صلى الله عليه وسلم : «سَأَلتُ رَبِّي ثَلَاثًا؛ فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ, وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً: سَأَلتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا, وَسَأَلتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا, وَسَأَلتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا».

وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الله زَوَى لِي الأَرْضَ, فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا, وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا, وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ, وَإِنِّي سَأَلتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ, وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ, وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ, وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ, وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَو اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا, وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا».

m   وأنها صلى الله عليه وسلم البة إلى يوم القيامة؛ فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ؛ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ, حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ».

قال النووي في شرح هذا الحديث: «قُلت: وَيَحْتَمِل أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَة مُفَرَّقَة بَيْن أَنْوَاع المُؤْمِنِينَ، مِنْهُمْ: شُجْعَان مُقَاتِلُونَ, وَمِنْهُمْ فُقَهَاء, وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ, وَمِنْهُمْ زُهَّاد, وَآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَنَاهُونَ عَن المُنْكَر, وَمِنْهُمْ أَهْل أَنْوَاع أُخْرَى مِن الخَيْر, وَلَا يَلزَم أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ, بَل قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَار الأَرْض. وَفِي هَذَا الحَدِيث مُعْجِزَة ظَاهِرَة; فَإِنَّ هَذَا الوَصْف مَا زَالَ بِحَمْدِ الله تَعَالَى مِنْ زَمَن النَّبِيّ  صلى الله عليه وسلم  إِلَى الآن, وَلَا يَزَال حَتَّى يَأْتِي أَمْر الله المَذْكُور فِي الحَدِيث».

m   وأن عيسى بن مريم يصلي خلف إمام هذه الأمة؛ بيانًا منه بأنه جاء متبعًا لشريعة نبينا محمد  صلى الله عليه وسلم  ولم يأت بشريعة جديدة؛ فعن جَابِر بْن عَبْدِ الله يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم , فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَة الله هَذِهِ الأُمَّةَ».

وعن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله  صلى الله عليه وسلم : «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ».

قال ابن حجر: «قَالَ ابْن التِّين: مَعْنَى قَوْله: «وَإِمَامكُمْ مِنْكُمْ» أَنَّ الشَّرِيعَة المُحَمَّدِيَّة مُتَّصِلَة إِلَى يَوْم القِيَامَة, وَأَنَّ فِي كُلّ قَرْن طَائِفَة مِنْ أَهْل العِلم».

وَقَالَ ابن الجَوْزِيّ: «لَوْ تَقَدَّمَ عِيسَى إِمَامًا لَوَقَعَ فِي النَّفْس إِشْكَال، وَلَقِيلَ: أَتُرَاهُ تَقَدَّمَ نَائِبًا أَوْ مُبْتَدِئًا شَرْعًا, فَصَلَّى مَأْمُومًا لِئَلَّا يَتَدَنَّس بِغُبَارِ الشُّبْهَة وَجْه قَوْله: «لَا نَبِيّ بَعْدِي».

وَفِي صَلَاة عِيسَى خَلف رَجُل مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مَعَ كَوْنه فِي آخِر الزَّمَان، وَقُرْب قِيَام السَّاعَة، دَلَالَة لِلصَّحِيحِ مِن الأَقْوَال أَنَّ الأَرْض لَا تَخْلُو عَنْ قَائِم لله بِحُجَّةٍ. وَالله أَعْلَمُ».

فيتضح مما سبق: أن أمةً هذه فضائلها وتلك خصائصها لا يستطيع أحد أن يقطع دابرها، ويقضي عليها من أولها إلى آخرها، ولذلك تكفل الله بحفظها من الضياع والانقراض والضلال بإرساله على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. كما بشَّرنا النبي  صلى الله عليه وسلم  في حديثه الذي نحن بصدد شرحه: «إِنَّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ: مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، وفي قوله: «لَا يَزَالُ الله يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ صلى الله عليه وسلم رْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ».



بحث عن بحث