من فضل الله تعالى أن جعل الأعمال النافعة كثيرةً جدًّا، ويمكن أن نقسمها إلى: أعمال مالية، وأعمال بدنية.

والأعمال المالية: فرض ونفل، والفرض: كإخراج الزكاة، وإيفاء النذور، وأداء الكفارات، والنفل: يجمعها صدقة التطوع والتبرعات والهدايا والهبات.

والأعمال البدنية التي تنفع الآخرين قسمان: ما يُفعَل بقوة الجسم؛ مثل: الدفاع عن المظلوم، وحمل المتاع للعاجز، وسقي الماء. وما يُفعَل باللسان؛ مثل: تعليم الآخرين، وموعظتهم، والشفاعة عند الرئيس لمن يحتاج لها.

وهي أيضًا: فرض ونفل، أما الفرض فمثل إنقاذ الغريق؛ فإذا رأى أحدٌ أحدًا في الماء ولا يعرف السباحة وهو يعرف السباحة ولا يعرفها أحد غيره هناك؛ فيتعين عليه ويجب أن ينقذ ذاك الغريق وإلا يأثم، وكذا إذا رأى أحد الناس يصلي ولا يعرف كيفية الصلاة فعليه أن يعلمه كيفية الصلاة الصحيحة، لما في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «من كتم علما مما ينفع الله به في أمر الناس أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار».

وتفصيل ذلك فيما يلي:

أولاً: الأعمال المالية: ومجالاتها كثيرة ومتنوعة؛ ومنها:

1 ـ إعتاق الرقيق، وقد حثّ الله عليه في قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿12 فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿14 يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15 أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿17 أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 ـ 18]، وكذا قد حث الله تعالى على إعانة المكاتب فقال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].

×    وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «من أعتق رقبةً مسلمةً أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار حتى فرجه بفرجه».

×    وعن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد  صلى الله عليه وسلم ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران».

وقد يكون ذلك واجبًا كما إذا ارتكب بعض الذنوب التي كفارتها عتق رقبة؛ مثل: حنث اليمين، وقتل الخطأ، والجماع في نهار رمضان.

2 ـ ومنها: إطعام الطعام، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿9إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿10فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿11وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}[الإنسان: 8 ـ 12]، وقال سبحانه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴿12 فَكُّ رَقَبَةٍ ﴿13 أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ﴿14 يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ﴿15 أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴿16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ﴿17 أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 ـ 18].

وإطعام الطعام من أعظم ما يدخل به السرور في قلب المسكين.

×    ففي صحيح البخاري وغيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكُّوا العاني».

وهو من أفضل الأعمال.

×    عن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسرّه بذلك سره الله يوم القيامة».

وجزاء إطعام الطعام من جنسه.

×    فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم».

×    وعن علي رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة لغرفًا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها»، فقال أعرابي: يا رسول الله! لمن هي؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام».

كما أن هذا العمل علاج لقسوة القلب.

×    فعن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رجلًا شكا إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قسوة قلبه فقال: «إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم».

وإطعام المساكين من الكفارات التي تكفر عن ذنوب ارتكبها العبد؛ مثل: الجماع في نهار رمضان، وحنث اليمين، وغير ذلك.

3 ـ ومنها: كسوة العاري، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه  عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم».

×    وعن ابن عباس رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: «من كسا مسلمًا ثوبًا لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك».

وهو من كفارات حنث اليمين.

4 ـ ومنها: التيسير على المعسر، ولا شك أنه مما يسرُّ المدين، وجزاؤه مغفرة الذنوب ودخول الجنة، ففي الحديث المتفق عليه عن حذيفة رضي الله عنه  قال: قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا: أعملت من الخير شيئًا؟ قال: كنت آمر فتياني أن يُنظِروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر. قال: فتجاوزوا عنه».

ولذا كان هذا من دأب الصالحين، يقول أبو مالك عن ربعي -أحد رواة الحديث-: كنت أيسر على الموسر وأُنظر المعسر.

5 ـ ومنها: إنكاح من بلغ النكاح ومساعدتهم في الزواج، وقد أمر الله المسلمين بذلك فقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].

×    وعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

6 ـ ومن أعظم الصدقات أجرًا: ما تُصدق به في الجهاد في سبيل الله وإعانة المجاهدين؛ لأن بالجهاد يحافظ على الثغور ويدفع عدوان الظالمين، وتحفظ به حرمات المسلمين وأموالهم، وينشر الإسلام في مجتمعات العالم، وكل ذلك نفع للآخرين، ولذلك زاد فضلها وعظم أجرها، وبذل الأموال في سبيل الجهاد لا يقل أهمية من بذل الأرواح في ذلك؛ بل إن القرآن قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿10 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿11 يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿12 وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 ـ 13].

×   وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعِي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعِي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه : بأبي وأمي يا رسول الله! ما على من دُعِي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعَى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم».

×   وفي الحديث المتفق عليه أيضًا عن زيد بن خالد رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا»، وفي رواية: «من جهّز غازيًا أو جهّز حاجًّا أو خلفه في أهله أو فطّر صائمًا كان له مثل أجورهم من غير أن ينتقص من أجورهم شيء».

×   وفي الترمذي عن خريم بن فاتك رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف» قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن.

6 ـ ومنها: ما أنفق في تعليم أبناء المسلمين؛ بإقامة المدارس والمؤسسات التعليمية، ونشر الكتب المفيدة التي تسهل تحصيل العلم الشرعي، وإعانة الطلبة بالمكافآت والجوائز والكتب ووسائل التعليم، وقد يكون هذا العمل من الصدقات الجارية التي يستفيد منها صاحبها حتى بعد وفاته ما دام هذا العمل الخيري ينتفع به أبناء المسلمين.

×   عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علّمه ونشره، وولدًا صالـحًا تركه، ومصحفًا ورّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه من بعد موته».

7 ـ ومنها: ما أنفق في أعمال الدعوة، ككفالة داعية أو بناء مدرسة في البلاد التي يعيش فيها المسلمون في ظروف قاسية، أو بناء مسجد في تلك البلاد، أو كفالةُ اليتامى الذين يقعد لهم المنصرون كل مرصد لتنصيرهم، وتربيتُهم التربية الإسلامية.

m قال ابن سعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]: «وهي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. فكل خير عمل به أحد من الناس بسبب علم العبد وتعليمه أو نصحه أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان فاقتدى به غيره، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر يكتب عليه.

ولهذا «من سن سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك...».

وانظر إلى الرسول  صلى الله عليه وسلم  كيف يحث أمته على الحرص على هداية الناس.

×   ففي البخاري عن سهل رضي الله عنه  -يعني ابن سعد- قال: قال النبي  صلى الله عليه وسلم  يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فبات الناس ليلتهم أيهم يعطي، فغدوا كلهم يرجونه، فقال: أين علي؟ فقيل: يشتكي عينيه، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه، فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».

وتصور أيها المسلم! حجم ما ينفقه النصارى لتضليل أبناء المسلمين، هذه النفقات فوق تصورنا تبلغ بلايين البلايين، ولكن الواحد منا اليوم –وهو يعتنق ويدين دين الحق - إذا طلب منه كفالة داعية أو الإنفاق في أي عمل دعوي تراه يُقدِّم رِجلًا ويؤخر أخرى، ويختلق لنفسه الأعذار، مع أنه قد ينفق في وليمة واحدة آلاف الريالات! واقرأ قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].

8 ـ ومنها: ما أنفق في الوقف الإسلامي، وهو حبس الأصل ووقف منافعه في سبيل الله، وهو من الصدقات الجارية، ولقد أمرت الشريعة الإسلامية الإنسان بالصدقة والإنفاق في مجالات الإحسان، وجعلت له الحق في الوصية بصدقة يصل إليه ثوابها بعد مماته ولا تضر بورثته من بعده، ومن أفضل الصدقات: الأوقاف، فهي من أعظم أبواب البر والإحسان وأكثرها فوائد ومصالح ومنافع.

×    عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». وقد ذكر أهل العلم بأن المراد بالصدقة الجارية الوقف.

هذا وقد أسهمت الأوقاف في تاريخ الأمة الإسلامية في كثير من أوجه الخير؛ ومنها: بناء المساجد، وتشجيع أهل العلم وطلابه، وإنشاء دوره ومؤسساته، وكفالة اليتامى، وإيواء المحتاجين، وإقامة الكثير من المرافق العامة، وكذلك أسهمت في التشجيع على التأليف وإنشاء المكتبات في البلاد الإسلامية وإثرائها بالكتب والرسائل المفيدة في مختلف العلوم والآداب.

وقد نظم السيوطي : أبياتًا جمع فيها أنواع الوقف التي جاء ذكرها في السنة فقال:

إذا مات ابن آدم ليس يجري
علوم بثها ودعاء نجلٍ
وراثة مصحف ورباط ثغر
وبيت للغريب بناه يأوي
وتعليم لقرآن كريم

  عليه من فعال غير عشرِ
وغرس النخل والصدقات تجري
وحفر البئر أو إجراء نهرِ
إليه أو بناء محل ذكرِ
فخذها من أحاديث بحصرِ

وقد أشار رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على عمر رضي الله عنه  إلى وقف أرضه بخيبر عندما استأمره فيها.

×   عن ابن عمر م أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه  أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي  صلى الله عليه وسلم  يستأمره فيها فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفسَ عندي منه، فما تأمره به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها». قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول.

وأنواع الوقف في هذا العصر كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال: وقف للمسجد، وقف للمدرسة، وقف لليتيم، وقف لمشروع خيري، وقف لمدارس التحفيظ، وقف للمكتبة، وكل وقف ينفع المسلمين فإن الواقف يؤجر عليه طيلة مدة الانتفاع من هذا الوقف.

والأمة في حاجة ماسة إلى أوقاف تعين المؤسسات الدعوية والخيرية في إعانتها الدعاة ومدرسي القرآن وكذا الفقراء والمساكين باستمرار، حتى لا تحتاج هذه المؤسسات إلى تكرار الإعلانات عن تقبلها صدقات وزكوات وكفارات وغيرها.

9 ـ ومنها: النفقة على الأهل؛ الذي ينفق على أهله بالمعروف فهو صدقة عليه، وهو لا شك عمل ينتفع به الآخر، وقد فضل الله سبحانه الرجال على النساء بما أنفقوا من أموالهم، فالذي ينفق عليهم احتسابًا يؤجر.

×   ففي حديث مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله»، قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم؟.

×   وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك».

10 ـ ومنها: ما أنفق في صلة الرحم، وأحق الناس بالبر والصلة الوالدان ثم الأقرب فالأقرب.

×   وفي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  قال: سألت النبي  صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين»، قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني.

×   وعند أحمد والنسائي وابن ماجه عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة».

11 ـ ومنها: إعانة الأخ المسلم بإقراضه، والتيسير له وعدم التضييق عليه، والعفو عنه إن كان معسرًا.

mقال ابن رجب الحنبلي: «والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]. وتارة بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم».

وقد سار على ذلك السلف، ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له على رجل دين، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة، فناداه: يا فلان! اخرج فقد أُخبِرت أنك هاهنا، فخرج إليه فقال: ما يغيبك عني؟ قال: إني معسر وليس عندي، قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة ثم قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: «من نفَّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة».

×   وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ومعه غلام له معه ضمامة من صحف، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري، فقال له أبي: يا عم! إني أرى في وجهك سفعة من غضب؟ قال: أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال، فأتيت أهله فسلمت فقلت: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج علي ابن له جفر فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي. فقلت: اخرج إلي فقد علمت أين أنت. فخرج فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك؛ خشيت والله أن أحدثك فأكذبك، وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وكنت والله معسرًا. قال: قلت: آلله؟ قال: الله. قلت: آلله؟ قال: الله، قلت: آلله؟ قال: الله. قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده فقال: إن وجدت قضاء فاقضني وإلا أنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين -ووضع إصبعيه على عينيه- وسمع أذني هاتين ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى مناط قلبه- رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وهو يقول: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله».

mيقول الشيخ إبراهيم بن محمد الضبيعي: «فينبغي للمؤمن الغني الذي أعطاه الله مالًا أن يقرضه ممن يقصده للحاجة، وحبذا لو تكاتف الأغنياء وأنشؤوا صندوقًا للقرض الحسن، يقترض منه المسلم في وقت  الشدة بعد أن يقدم الضمانات الكافية من كتابة أوراق أو رهان مقبوضة، كما نص على ذلك الشارع الحكيم.

وذلك حتى يكون هذا الصندوق مدعاة لتفريج الكرب عن المكروبين، ولا يضطر المحتاج إلى الاقتراض من البنوك الربوية، أو الأشخاص الذين يتحايلون على الربا، وليت أن هذا الصندوق الخيري يتولى قضاء الدين عن الميت ثم يقوم بتحصيل هذه الديون من الورثة على أقساط مريحة، حتى يحس أهل البيت أن المجتمع متعاطف معهم، ويخفف ذلك من مصابهم؛ لأن نفس المؤمن معلقة بدينه» ا.هـ.

12 ـ ومن محاسن الإسلام أنه لم يكتف بالإحسان إلى البشر؛ بل تجاوزت رحمته إلى البهائم، فقد «عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا فدخلت فيها النار، قيل لها: لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستِها، ولا أنتِ أرسلتِها فأكلتْ من خشاش الأرض» كما في الحديث المتفق عليه.

×   وعن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». هذا في البخاري، وفي مسلم: «أن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها».

وكذلك إذا غرس مسلم غرسًا فكل من يستفيد من هذا الغرس يكون ذلك صدقة في حق الغارس، وإن كان هذا المستفيد حيوانًا.

×   فعن أنس رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».

وننبه في الأخير: أن الحاجة كلما كانت ماسة فسُدَّتْ هذه الحاجةُ كان ذلك سببًا لكسب أجر أعظم، والصدقات والمعونات المالية كلما كانت سببًا في تفريج الكربات عن أكبر عدد من المكروبين ووصلت إلى أكثر عدد من المحتاجين، واستمر نفعها وعطاؤها؛ كان ثوابها أعظم عند الله، ولذا لما سأل سعد بن عبادة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: «إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل»؟ قال: الماء، فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد».

وذلك لما كان المسلمون حينئذ في أمس الحاجة إلى الماء ويتعدى نفعه لأكبر عدد ممكن، كما أنه مما يستمر نفعه، دل عليه الرسول  صلى الله عليه وسلم .

هذه بعض المجالات، ويقاس عليها غيرها مما ينتفع به الإنسان أو الحيوان، وسواء كانت بصورة فردية أو جماعية، عن طريق أفراد أو مؤسسات اجتماعية كجمعيات البر الخيرية والإغاثية، ولا شك أنها إذا كانت عن طريق تلك المؤسسات فخيرها أعظم، ونفعها أشمل، وانتظام عملها أكثر دقةً، وأوسع انتشارًا.



بحث عن بحث