التعبد في الحج

 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

ارتبطت عبادة الحج بالزمان والمكان ارتباطًا قويًا، حيث يدخل في أوقات هي من أحب الأوقات إلى الله، كما أنها تكون في أحب الأماكن إليه جل وعلا، وحين يلبس الحاج الإحرام وينوي أداء هذا النسك، فإنه يدخل في حالة تعبدية بالأفعال والأقوال ضمن ذلك الإطار الزمني والمكاني، وفيما يلي بيان لبعض المعالم التعبدية لهذا الركن العظيم، وفضائله والآثار الإيجابية المترتبة عليه.

الحج ركن من أركان الإسلام:

الحج ركن من أركان الإسلام وفريضة واجبة على كل مسلم قادر على أدائه وهو في العمر مرة واحدة، نصت على ذلك نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، قال الله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (1). وقول النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"(2)

فضائل الحج:

للحج فضائل وآثار كبيرة ومتعددة على الحاج في الدنيا والآخرة، منها:

1 – وفي الحج إحياء لتوحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية، من خلال أعمال الحاج وأقواله، في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ورمي الجمرات والحلق وغيرها وما يذكر في ذلك من الأذكار والأدعية(3)

2 – في الحج تبادل المنافع والمصالح بين المسلمين من شتى البلاد، وعرض للسلع والمنتوجات في هذه البلاد وغير ذلك، لقول الله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) (4).

3 –  وفي الحج مغفرة للذنوب والخطايا ما لم تشوبه المعاصي، إذ أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وأن الحاج يعود بعد الحج كيوم ولدته أمه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"(5)، وقوله: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"(6).

4 – في الحج تستجاب الدعوات، لتوفر الكثير من شروط قبول الدعاء من الشعث، والسفر، وكذا فيه الأماكن التي لها منزلة وحرمة عند الله مثل عرفة والكعبة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الحجاج والعمّار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم"(7)وقال: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"(8).

5 – في الحج تذكير باليوم الآخر، ووقفة الحشر، عندما يظهر الحجاج بملبس واحد في صعيد واحد، مع تباين أشكالهم واختلاف أعراقهم ومناصبهم، يقفون بين يدي العزيز الجبار، يرجون رحمته وغفرانه، فهذا الموقف صورة تذكر بيوم الحشر الذي لا يعرف فيه خليل خليله.

6 – في الحج يتحقق مبدأ المساواة بين الناس غنيهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، أبيضهم وأسودهم، فتذوب كل العلاقات والوجاهات، والأنساب والمناصب، وتتلاشى الفوارق الطبقية والعرقية واللونية، فلا يظهر في الحج إلا آصرة العقيدة والدين وحدها.

7 – الحج مؤتمر إسلامي عالمي، ينعقد في كل عام مرة واحدة، يتعارف فيه المسلمون على بعضهم، وينبغي أن يتداولوا بينهم أمورهم وأن يعرضوا مشكلاتهم وأحوالهم، فيتشاور أهل الرأي والحل، والعلم والذكر لوضع الخطط القويمة التي تنهض بالعالم الإسلامي وتوحد قوتهم وكلمتهم ضد ما يحاك عليهم من مكائد ومصائد من ملل الكفر قاطبة.

كيف نصل إلى تحقيق هذه الفضائل:

ثمة خطوات عملية وقولية على الحاج اتباعها لتحقيق أكبر قدر ممكن من الحِكم والفضائل المترتبة على أداء فريضة الحج، منها:

أولاً: استشعار عظمة الله في آداء هذا الركن العظيم، لقوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (9) ، خاصة أنه وجب على المسلم منذ عهد إبراهيم عليه السلام الذي أقام البيت مع ابنه إسماعيل عليه السلام، ثم خاطبهم الله تعالى بقوله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (10). فضلا عن أن سورة كاملة في القرآن سميت بسورة الحج.

ثانيًا: استشعار فضائل الحج السابقة، والأجر المترتب عليها، مما يكون دافعًا للمسلم أن يحقق الغايات والعلل الموجودة في هذه الفريضة العظيمة.

ثالثًا: الاستعداد النفسي لأداء مناسك الحج: ويتمثل ذلك بتدريب النفس وتعويدها على الإنفاق في سبيل الله، حيث إن أداء الحج يتطلب نفقات مالية ومادية كثيرة، وكذلك تدريبها على تحمل مشاق السفر والغربة عن الأهل، وتعب أداء المناسك والتنقل بين المشاعر المقدسة، وغير ذلك مما ينبغي تصور حدوثه في الحج.

رابعًا: النية الخالصة في الحج: وهي الأساس الذي ينطلق منه المسلم في أي عمل، حيث لا تحقق أية عبادة فضائلها والأجر المترتب عليها إلا بإخلاص النية فيها لله تعالى، بالاستجابة لأمره جل وعلا، لقول الله تعالى:( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) (11)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ""إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى"(12).

خامسًا:  التحمل والصبر في الحج، على مشاق الطريق، وتعب الأسفار، يوم أن يخرج الحاج من بيته إلى أن يصل إلى المشاعر المقدسة والتنقل بينها، إضافة إلى تحمل أذى الناس الناتج من الجهل وقلة العلم بالدين أحيانًا، ومن الازدحام وكثرة أعداد الحجاج من أحيانًا أخرى، كما ينبغي في هذه الحالة الابتعاد عن إيذاء الناس والضيق عليهم، خاصة لمن أوتي قوة في الجسم، أثناء التدافع والطواف والسعي وغيرها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع"(13).

سادسًا: الفرح بأداء عبادة الحج، بعد أن تعب الحاج من مشقة الطريق وتعب الأسفار والغربة عن الأهل والديار، فقد يسّر الله له الحج وأعاده إلى أهله سالمًا مغسولاً من الذنوب والخطايا، الأمر الذي يقتضي شكر الله تعالى بالقول والعمل والطاعات، وتجنب المعاصي والمنكرات، حتى يفتح الله له أبوابًا أخرى للخير والسعادة، لقوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (14).

سابعًا: الطمع بما عند الله، من التوفيق والتسديد والسعادة في الدنيا، والأجر العظيم والمثوبة الكبيرة في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحجاج والعمّار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم"(15)، وقال أيضًا: "من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"(16)

ثامنًا: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتمثله في جميع شؤون الحياة، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (17)، وخاصة في نسك الحج، بالأفعال والأقوال والأخلاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"(18)

تاسعًا: كثرة الذكر والاستغفار في الحج، لقول الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) (19)، وقوله جل وعلا: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)(20)

عاشرًا: الدعاء المستمر في أول الحج بالتوفيق والتسديد، وفي آخره بالقبول والرضوان، كما فعل إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (21)

حادي عشر: الانطلاق إلى حياة أفضل، بحيث يكون أداء نسك الحج نقطة تحوّل لحياة جديدة مليئة بالطاعات والأعمال الصالحة، وبعيدة عن المعاصي والمنكرات، وترك للمعاضي الماضية والندم عليها، والعمل لمستقبل مشرق من كل الجوانب بحسن الظن بالله، والثقة بالنفس، خاصة وأن الله قد غفر للحاج ذنوبه ورجع كيوم ولدته أمه، قال الله تعالى: (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (22)

أسأل الله العظيم أن ييسر على الحجاج ويتقبل منهم مناسكهم، ويعيدهم إلى أهلهم سالمين غانمين بالأجر والثواب العظيم، ومطهرين من الذنوب والخطايا كما ولدتهم أمهاتهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(1) سورة آل عمران، الآية 97.

(2) أخرجه مسلم.

(3) ينظر كتابنا: معالم التوحيد في الحج.

(4) سورة الحج، الآية 28.

(5) أخرجه البخاري، ومسلم والترمذي والنسائي.

(6) أخرجه البخاري، ومسلم.

(7) أخرجه ابن ماجه.

(8) أخرجه مسلم.

(9) سورة آل عمران، الآية 97.

(10) سورة الحج، الآية 27.

(11) سورة البينة، الآية 5.

(12) أخرجه البخاري.

(13) أخرجه البخاري ومسلم.

(14) سورة إبراهيم، الآية 7.

(15) أخرجه ابن ماجه.

(16) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

(17) سورة الأحزاب، الآية 21.

(18) أخرجه أحمد.

(19) سورة البقرة، الآية: 198.

(20) سورة البقرة، الآية 200.

(21) سورة البقرة، الآيتان 127، 128.

(22) سورة المائدة، الآية 39.

 



بحث عن بحث