الفتنة، الإصلاح، التغيير

ترادف أو تعارض

 

يطغى على أحاديث كثير من الشرائح في العالم على مستوى الأفراد، والمؤسسات، والدول، والمجالس النيابية، والمنتديات الثقافية، أوضاع الاضطرابات والتغيير في العالم العربي، ومن المحاور المهمة في الطرح، هل ما يحدث أمرًا مفاجئًا؟ وهل للغرب ضلوع فيه؟ وهل هو إيجابي أو سلبي في أغلب وجوهه؟ وما المآلات والعواقب الممكن حدوثها؟ وهل ما يحدث في مجتمع هو بالضرورة مناسب لمجتمع آخر حتى في بعض أحكام الحلال والحرام الخاضعة للمصالح والمفاسد؟ وما تأثير هذه الأحداث على مجريات السياسة والاقتصاد في تلك الدول نفسها، وفي العالم بأسره؟ وما علاقتها بما حدث من حوادث في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها؟

تلك وغيرها محاور طرحت وتطرح وتطغى على أحاديث الساسة والعلماء والمفكرين والاقتصاديين والاجتماعيين والتربويين والنفسيين، وهنا تنشط وسيلتان هما: موقعي (الفيس بك)، و (تويتر)، وبعض الفضائيات التي جندت نفسها لحفل الصورة عن هذه الاضطرابات والأحداث من وجهتها الإعلامية، وهذا بلا شك له دلالاته التي تتضمن الوقوف، والنظر.

وليس المهم هنا الإجابة على هذه الأسئلة فالمجال واسع للتحليل والنظر والرأي، وإنما المشاركة في طرح جوانب منهجية تسهم في ما يطرح وبخاصة في مجال المصطلحات المعنون بها المقال، إذ أنها تحتاج إلى مزيد من التعمق، وبالذات في غمرة الأحداث وتواصلها وتنوعها واختلاطها، ولعل هذه الاستنتاجات إحدى المحركات للبحث في الاتجاه الصحيح إن شاء الله.

الاستنتاج الأول: هذه المصطلحات كلها وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية بمفاهيم متعددة بحثت فيها مؤلفات مطولة ومختصرة وهنا أهيب بأهل الاختصاص أن يبرزوها لتأخذ حقها من النظر الصحيح.

وارتباطها بالأحداث ارتباط وثيق نظريًا وعمليًا، فبعض الأحداث انقلبت إلى فتن تداخل فيها الحق والباطل حتى ضعف الحق أو غاب عن النظر عند كثيرين، وأما الإصلاح فهو مطلب في كل زمان ومكان وفي مختلف المجالات الشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، والمعاشية وليس الخلاف في أهميته وأهدافه فهو مهمة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم وأهل الإخلاص والاختصاص وإنما النظر في كيفيته وآليته، وتطبيق كل مطلب في كل مجتمع على كل مجتمع، أما التغيير فهو سنة من السنن الكونية قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد11]، لكنه سلاح ذو حدين عند تغيير إيجابي، وتغيير سلبي، والتمييز بينها يحتاج إلى فقه في المنطلقات والأبعاد والنتائج.

الاستنتاج الثاني: طغت هذه المصطلحات في الطرح الإعلامي وظاهر طرحها أنها تنحوا المنحى الإيجابي وهذا محمود بلا شك لكن لتكون إيجابية أرى أن تقوم على مقوماتها الحقيقية التي لا تكتفي بالشعارات فحسب، أو بعمومات للمطالب المطروحة، أو غير المحسوبة، أو لعدم إدراك مآلاتها ولأضرب لذلك مثالًا:

1 ـ أسلوب الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات للتعبير عن المطالب، فبعض البلدان تجيزها بضوابط من خلال أنظمتها، وبعضها يحددها في مجال معين، وبعضها تمنعها ولكل نظره لكن ما أشير إليه هنا مما يدعو إلى التوقف:

- هل إطلاق المظاهرات في مختلف وسائل الإعلام على أنها حق مشروع للتعبير بدون  النظر لأي اعتبار آخر؟

- ما مصدر إطلاق هذه المظاهرات؟ ومن هو المحرك؟

- ما مشروع مطلقها الذي يريد تحقيقه؟ وهل أعلنه للناس؟

- ومن يتحمل سلبياتها مما يقع من القتل والاعتداء والخلل الأمني والاعتداء على الأعراض والأموال؟

- وماذا بعدها؟ وما مآلاتها ونتائجها؟

- وأخيرًا وما علاقتها بـ (الفتن، التغيير، الإصلاح)؟

أقول: إن من الحكمة تدارس مثل هذه الطرح من مثل أهل الرأي والاختصاص، ولعل التأمل فيها ما جعل علماءنا الأجلاء في هيئة كبار العلماء يتضح عندهم ضررها في بلادنا لمعطيات كثيرة، شرعية، ومصلحية آنية، وما يترتب عليها من مفاسد، وما تتمتع به بلادنا من مكتسبات شرعية دينية ووطنية (1) .

وهذا ما جعلهم أيضًا يؤكدون على أن أساليب التغيير والإصلاح متعددة وإن طال زمن الإصلاح لأن المقام يتطلبه.

وعليه فليس من الحكمة الانجراف وراءها ليعيش الناس في سلبياتها التي قد لا يتصورها من يدعو إليها فضلًا لمن يستجيب لها، ويستثمرها من لا يعلم حاله؟!

الثالث: هذه المصطلحات بينها قواسم مشتركة، وبينها اختلاف، ومن المهم هنا ذكره أن الفتنة سلبية من كل وجه لأن غايتها التباس الحق بالباطل، ودخول أصحاب الأغراض الشخصية، والطائفية والحزبية في غمرة من يطالب بحق؛ والإصلاح مطلب لكن يحتاج إلى جملة من المنطلقات المنهجية والآداب التي تعين إلى الوصول إليه، وهذا ينقلنا إلى التغيير المحمود إذا كانت معالمه واضحة، ومنها:

إظهار الأصول والمنطلقات وبخاصة في بلادنا كبيعة أهل العلم والحل والعقد لولي الأمر، وتحكيم الشريعة، وإقامة الأنظمة على الشريعة وبخاصة النظام الأساسي للحكم عليها، ووجود المؤسسات الشرعية كالقضاء الشرعي، والإفتاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، والتوجيه، وغيرها وكلها لها مؤسسات قائمة يجب أن تقوم بمهمتها. وكذا المكتسبات الحقوقية في التعليم والصحة وسائر الحقوق.

وما وجدت هذه المؤسسات إلا لتقوم بدورها في التغيير الإيجابي نحو ما يحتاج إلى إصلاح بمختلف الوسائل المشروعة ومن واقع أنظمتها.

نعم هناك نقاط في الحقوق الفردية، وواجبات الدولة والمؤسسات، وكذلك ما يجب على الأفراد تحتاج إلى تفعيل وتصحيح وتغيير للإصلاح لكن يتردد في ذهني سؤال. أليس القائمون على المؤسسات الحكومية التنفيذية هم من أبناء الوطن الذين بعضهم يطالب بتلك الحقوق؟ أقول بلى، فإذا كان كذلك فمهمتهم في هذا الوقت كبيرة للقيام بها ومسؤوليتهم عظيمة للنهوض بها.

الرابع: كلمة تقدير تسجل لأبنائنا الشباب الذين يبلغ طموحهم إلى مطالب السعي إلى الإصلاح والتغيير، كما تسجل كلمات الشكر لكبرائنا فيما يطالبون به أولئك من الحكمة في مطالباتهم والتنبه إلى المندسين والحاقدين وسائر الأعداء، ولذا هنا مع الشكر والتقدير أتمنى أن تجتمع حماسة شبابنا مع حكمة شيوخنا، ووضوح منطلقاتنا لنعمل جميعًا بيد واحدة في اتجاه واحد لتحقيق أهداف واحدة تحت رعاية ولاية واحدة في يقظة وتكاتف لتحقق آمال الشباب وطموحاتهم بحكمة وروية، ونعمل جميعًا جنودًا مخلصين لوطننا، ونحافظ على مكتسباتنا، وإغلاق الأبواب تجاه المتربصين بنا، وهذا آمل وتفاؤل وبهذا نحقق الغاية من التغيير للإصلاح متجنبين الفتن ما ظهر منها وما بطن، وشكرًا للجميع، وحمانا وبلادنا من كل شر وسوء ومكروه ورد كيد الكائدين وعدوان المعتدين، وألقاكم على خير.


(1) للاستزادة يعاد لبيان هيئة كبار العلماء في حكم المظاهرات ، وبيان فضيلة الشيخ عبدِ العزيز بنِ عبدِ اللَّـهِ الرَّاجِحيِّ .



بحث عن بحث