الأحلام ( 2-2 )

 

تحدثنا في الحلقة السابقة عن الأحلام من حيث هي, وكذا من مجموع فرضيات تحتاج إلى إجابة تفصيلية, وفصّلناه في محورين:

الأول: ما يراه الإنسان في منامه, وهذا ما سبق التفصيل فيه من الحلقة الأولى.

الثاني: ما يحلم به الإنسان في اليقظة, أو يتخيله قريباً منه, أو في مستقبله.

وهو مجال الحديث في هذه الحلقة.

وندخل في هذا الموضوع المترامي الأطراف من خلال الزوايا الآتية, لكي نستثمر تلك الأحلام استثماراً إيجابياً, ولا نعيش في خيال لا يستقر على الأرض.

الأولى: أن أحلام اليقظة (كما تسمى) جزء من حياة الإنسان وقد تكون أحلاماً يمكن  تطبيقها في عالم الواقع, وقد تكون أحلاماً خيالية لا يمكن تطبيقها أو العمل للوصول إلى تطبيقها, وقد تكون أحلاماً مرتبة منظمة مقصورة, وقد تكون متداخلة لا أول لها ولا آخر, وقد تكون متفقة مع قدرات الإنسان ومواهبه وإمكاناته وقد لا تكون كذلك.

أقول: هذه الأحلام لا يخلو منها إنسان, وإنما ينبغي أن يتعامل معها وفق منهج واقعي, واضح لديه, ويسيرها حسب قدراته وإمكاناته.

إن التعامل معها وفق هذا المنهج قد يكون دافعاً لتحقيق طموحات كبيرة, ولذا ليس من الواقعية التعامل معها بلا منهج واضح, فتصبح كالأسلاك المتشابكة التي لا يستطيع فصل بعضها عن بعض.

الثانية: الأحلام بالمفهوم الواقعي السابق لها رصيد من التأصيل الشرعي سواء في الكتاب, أو السنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, ومن ذلك ما جاء في رؤيا يوسف عليه السلام: (إني رأيت أحد عشر كوكباً, والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين), ففي هذا إشارة إلى شيء في المستقبل سيتم وعلى يوسف –عليه السلام- أن يعمل للوصول إليه, وفعلاً تم الأمر فسجد له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر عندما جاءوا إليه بعد رحلة حياته الطويلة.

وكذلك ما جاء التوجيه فيه في قصة قارون في قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك), ففي هذا التوجيه الرباني أن السعي يكون فيما ينفع الإنسان في الآخرة وهذه إشارة على النظر إلى المستقبل الذي يجب أن يسعى إليه الإنسان.

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة كرّس هذا المعنى بأقواله وأفعاله, ففي طريقه للهجرة, وعند لحوق سراقة به عليه الصلاة والسلام, يقول صلى الله عليه وسلم لسراقة: " كيف بك إذا لبست سواري كسرى ".

تعظم هذه الكلمة عندما نتصور واقع النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظات فهو شخص مطارد, وبعيد عن بلده وعشيرته, ومع ذلك يتصور المستقبل البعيد الذي ينتظر هذا الشخص –رضي الله عنه- فهو يصنع له حلماً بعيد الأمر, لكنه يضعه قريباً بين يديه ليعمل له.

وبناء على ما سبق –وغير كثير- ينبغي للمسلم العاقل الجاد أن يتصور الحلم الذي يريد بالمواصفات الواقعية.

الثالثة: بناء على ما سبق يمكن أن نضع أهم النقاط التي يصبح بها الحلم إيجابياً:

1- أن يكون هذا الحلم يمكن تطبيقه في الواقع: مثل أن يحلم الإنسان بأن يكون عالماً أو طبيباً أو مهندساً كهربائياً ومعمارياً وإدارياً أو تاجراً كبيراً من كبار التجار, ووزيراً ناجحاً....إلخ, وهذا يمنع أن يكون خيالياً خارجاً عن إمكانية التطبيق.

لكن لو حلم أن يكون عالماً, أو أن يكون طبيباً ماهراً, ونحو ذلك فهذا يمكن التطبيق, والعمل للوصول إليه ليس أمراً مستحيلاً, وإنما يحتاج إلى تهيئة الوسائل لتحقيق هذا الحلم, والجدية منذ البداية.

2- اتخاذ الوسائل الواقعية التي يستفيد منها للوصول إلى هذا الحلم والابتعاد عن الخيالية في تلك الوسائل, أو المبالغة فيها.

3- التدرج في الطريق لتحقيق الحلم المراد, وعدم القفز إلى درجات كبيرة, أو القفز على منجزات الآخرين, فالتدرج خطوة مهمة تتطلب الرؤية الصحيحة للحلم المراد تحقيقه, ووضوح في الخطوات التي يراد السير عليها.

4- تقويم المسيرة بين فترة وأخرى حتى لا يسير الشخص بطريق خاطئ, أو ينحرف في سيره, أو تزل قدمه, أو يتراجع لأدنى عقبة تمر عليه.

5- الاستفادة من تجارب الآخرين ورؤاهم حتى لا يبدأ الإنسان بمشروعه من حيث بدأوا بل من حيث انتهو, فيختصر الخطوات ويصل إلى المراد بأقصر طريق.

الرابعة: إن من أهم فوائد هذه الأحلام الواقعية بتلك المواصفات أنها تشكل حافزاً من أهم الحوافز للعمل والإنتاج, ولذلك تعظم الأعمال لدى فئة تستشعر عظم المسؤولية في هذه الحياة, أو تستشعر ما ينتظرها في الحياة الأبدية (الآخرة).

وبعكسه ذلك الذي يجبن حتى عن الأحلام المشروعة يعيش في همة ضعيفة بين أعمال قليلة, أو حتى تكون أعمالاً خاطئة كما قال الشاعر:

      ومن يتهيب صعود الجبال    **    يعش أبد الدهر بين الحفر

ولذا على المسلم العاقل الجاد أن يتصور تلك الفائدة العظيمة ليسعى بجد واجتهاد لتحقيق أحلامه القريبة والبعيدة.

الخامسة: من أهم عوامل تحقيق الأحلام, واختصار الوقت لتحقيقها أمور منها:

1- التجرد لله سبحانه وتعالى, وتصفية النية من جميع الشوائب, فتكون الأعمال والأحلام خالصة لله سبحانه.

2- صحة الأعمال وسلامتها فلا يتخذ المرء أعمالاً غير سليمة, أو غير صحيحة شرعاً أو واقعاً, أو فيها ظلم للآخرين أو تعدٍ على حقوقهم, بل يجب أن تكون سليمة صحيحة.

3- القراءة والبحث فيما يريد الوصول إليه, وتنمية ثقافته وتوسيع دائرة معارفه تعينه بإذن الله على تحقيق الآمال والأحلام.

4- الاستفادة من الخبرات المماثلة حتى لا يبدأ الشخص أو المؤسسة من الصفر بل يبدأ من حيث انتهى غيره, وهذا عين الحكمة والعقل فالخبرة رصيد ضخم من العلوم والمعارف والخبرات تفيد الإنسان وتعينه على تخطي العقبات والصعاب.

حقق الله الآمال وسدد الخطى...وإلى اللقاء.



بحث عن بحث