الأرحام

 

(الإنسان مدني بطبعه) جملة ذات مدلول عملي كبير قالها العلامة الاجتماعي ابن خلدون في دراسة تأملية في جانب من حال الإنسان في هذه الحياة, وأصبحت قاعدة ينطلق منها علماء الاجتماع, وعلماء النفس وغيرهم, سواء في تقريرها, أو التفريع عليها برامج في التعامل مع بني جنسه سواء كانوا أقرباء, أو أصدقاء, أو غيرهم.

وعند التأمل في هذه الجملة نجدها حقيقة واقعة في سمات الإنسان, فالأصل فيه أنه اجتماعي يقيم علاقته في هذه الحياة مع الآخرين في صنوء دوائر تقرب منه أو تبعد, وبناء على ذلك فلا يمكن أن يعيش الإنسان في هذه الحياة منفرداً عن غيره مهما أراد ذلك فله أقارب, وأصدقاء وجيران, وزملاء العمل والمهنة, ويتعامل مع الباعة والناس في المساجد والشوارع وغيرهم.

ومن هنا جاء تنظيم الإسلام لطبيعة هذه العلاقات منطلقة من أسس عقدية وأخلاقية تكمن في الصلة والعدل والمحبة والرحمة والإحسان.

***

وفي هذه الأسطر نقف مع دائرتين من دوائر العلاقات مع هذه الإنسان هما من أقرب الدوائر, وأعمقها صلة, وأكثرها وجوداً في الواقع, هما دائرة الأقارب, ودائرة الأصدقاء, ولأهمية هذه العلاقة الحميمية جاءت النصوص الشرعية بالحث على إقامة هذه العلاقات بمختلف مقرراتها, كما جاءت بالتحذير من القطيعة, فلنقرأ قوله تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل), وقوله تعالى: (والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل), وقوله تعالى: (وتقطعوا أرحامكم), ولنقرأ قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يدخل الجنة قاطع ), وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من سرة أن يبسط له في رزقة وأن ينسأله في أثره فليصل رحمه ).

بل جاءت النصوص بدرجة عليا في هذه الصلة, والتحذير من القطيعة حتى في حالة قطيعة الطرف الآخر, بل وفي حالة إساءته, يقول عليه الصلاة والسلام: ( ليس الواصل بالمكافي ولكن الواصل إذا قطعت رحمة وصلها ).

هذا كله يبين أن هذه العلاقة تختلف عن غيرها في ضرورة وجودها والعمل الجاد على عدم قطيعتها لأنها أقرب الدوائر للإنسان, ومن الخذلان أن يزعم أو يدعى مدعي بأنه لا حاجة له فيهم, فهذا قد انغرست سلبيات كبرى في نفسه منها تمكن الأنانية, واستقلالية الذات, وقيام علاقاته على المصلحية المادية البحتة.

***

ومن هنا نجد جملة من المظاهر الخاطئة التي برزت في هذه المرحلة المعاصرة ومنها:

- بروز القطيعة بشكل عام فيقل أن تجد مجموعة من العقلاء إلا ويبثون هذه الشكوى التي انتشرت بين الأسر والأقارب, مما يجعلهم يطلبون حلولاً عملية تتناسب مع هذا الوقت بتطوراته وتقنياته.

- ومن المظاهر: الحساسية المفرطة تجاه بعض الأقارب بحيث يصل الأمر إلى تحميل الألفاظ والكلمات والمواقف أكثر مما تحتمل, وينعكس هذا الأمر على التصرفات حتى في أبسط صورها كاستنكار بعضهم تجاه السلام وكيفيته, أو الاتصال الهاتفي, أو زيارة معينة بطريقة لا يرتضيها الطرف المزار, أو دعوة لمناسبة دون دعوة الشخص الآخر ولو كان نسياناً أو خطأ, ونحو ذلك مما هو موجود عند بعض الأقارب.

- ومن المظاهر الخاطئة: القطيعة في الحملة حتى في سلام العيد فغلبت المدنية, والانشغال بالذات, وبالأسرة المحدودة, وبجلسات الأصدقاء والأصحاب, وبالانهماك في شؤون الحياة المختلفة ونحو ذلك, وقد يعلل الشخص القاطع لنفسه بأنه مشغول ولا يجد وقتاً للزيارة أو السلام, ولكن هو أول من يعلم أن هذا الانشغال ليس هو السبب الرئيس بدليل أنه لا يتخلف عن جلسات الأصدقاء والأصحاب ونحو ذلك, والسبب يرجع –في أحسن أحواله- إلى الإهمال والتفريط وعدم تنظيم الوقت, ومن المظاهر وهو من أزعجها, وإن كان قليلاً هو تشجيع مراكز الإيواء لكبار السن وقد يكون من دوافع التشجيع التخلص من العناية بالآباء والأمهات, وهذا من أكبر الكبائر, وأشد الذنوب –كما هو معلوم- وينبئ عن مداخل خطيرة لظواهر مزعجة ومخلة للأفراد والمجتمعات.

- ومن المظاهر الخاطئة: عدم الاستفادة من التقنيات المعاصرة لزيادة الصلة, والتفاعل بين الأقارب, ونقل أخبارهم وأحوالهم مثل: رسائل الهاتف الجوال, والمكالمات عبر وسائل الاتصال, والمكاتبات, والبريد المشترك ونحو ذلك كل بحسب وضعه وإمكاناته.

- ومن المظاهر: ضعف المساعدات لمن يستحقها وكذا الهدايا والهبات التي هي من أكبر عوامل الصلة, وتقارب القلوب, ونزع الضغائن والأحقاد ونحوها.

- ومن باب أولى في المظاهر عدم الإسهام في حل مشكلات بعضهم البعض وبخاصة في هذا العصر – عصر الأزمات المالية – بل أكثر من ذلك عدم الإسهام في قضاء دين أو سد خلة, أو معونة زواج, ونحو ذلك.

تلك أمثلة لبعض المظاهر الخاطئة في الصلة, والتي تستدعي النظر والتأمل لئلا نصل في وقت من الأوقات إلى ما هو أشد, ومع وجود هذه المظاهر إلا أنه يوجد مظاهر إيجابية قديمة وجديدة, وأذكر منها:

* الصلة الظاهرة في مناسبات الأفراح والأتراح.

* وجود الدوريات السنوية, ونصف السنوية, أو الشهرية لبعض الأسر والعوائل.

* إيجاد الصناديق العائلية لمساعدة من يحتاج إلى مساعدة وتكوين لجان أمانة لذلك.

* وجود لقاءات تتمحور حول الأب, أو الأم, أو الجد في اليوم أو في الأسبوع عند بعض الأسر.

* المبادرات –عند بعض الأسر- للرقي بشبابهم نحو العمل والجد والنتاج ليقوموا بواجبهم تجاه أنفسهم وأسرهم ووطنهم, وليكونوا عاملين منتجين نافعين.

تلك أمثلة لبعض المظاهر الإيجابية, والتي تحتاج إلى تفعيل وترتيب ونشر.

ولعل تلك المظاهر السلبية التي تحتاج إلى علاج, والمظاهر الإيجابية التي تحتاج إلى تفعيل.

أقول: لعل هذه وتلك تندمج في برنامج عمل يشترك فيه جميع الفاعلين في أسرهم, والذين يريدون الوصول إلى القمة في هذه الدنيا, وأن يسطر ذكرهم خالداً في دنياهم, وعند الله جل وعلا, ويفوزوا ببركة العمر والرزق والذرية, ويمتد تواصلهم في أولادهم وأحفادهم, ويستمر عملهم الصالح.

 

ومن معالم هذا البرنامج ما يلي:

- أن تنظم الأسرة, أو القائم على الأسرة برنامجاً خاصاً بـ: الوالدين يتناسب مع حالهم, والأخوة والأخوات يتناسب مع حالهم, والأعمام والأخوال يتناسب مع حالهم وهكذا.

- إزالة ما يحصل في القلوب من الحزازات والأحقاد والضغائن مهما كان الموقف من الطرف الآخر حتى يفوت على الشيطان الفرص التي يقتنصها.

- الدعاء لجميع الأقارب بالتوفيق والتسديد, وسلامة القلوب, ولأمواتهم, بالرحمة والمغفرة,

- بذل ما يستطاع من الهدايا, والهبات, والعطايا, وعامة المساعدات كل بقدر استطاعته: (وابتسامتك في وجه أخيك صدقة).

- التماس الأعذار لكل تصرف لا يرتضيه الإنسان, وعدم تكبير المواقف, وعدم الظن السيء بأي تصرف بل يعود الإنسان نفسه وأولاده على الظن الحسن وحمل المواقف على المحمل الإيجابي الحسن.

- الصلة بالهاتف لمن كان بعيداً, أو مشغولاً.

- استخدام التقنية بين الأسر مثل: أن يكون لهم رسالة جوال عامة تحمل أخبار الأسرة, وكذا بريد الكتروني لتزويد الأسرة بكل جديد ونحو ذلك.

- خاصة لذوي الأحوال الكبيرة بأن يعملوا أوقافاً للأسرة تتشعب الاستفادة منه, حتى يصل إلى رعاية بعض شباب الأسرة ليواصلوا تعليمهم إلى شهادات عليا وينفعوا أنفسهم وأسرهم ووطنهم.

- خاصة لذي القدرات والملكات والمواهب –من الذكور والإناث- بأن يتولوا تدريب نخبة من أبنائهم وبناتهم نحو ما يجيدونه من المواهب والقدرات.

- خاصة لأهل العلم –أياً كان هذا العلم- بأن يتولوا عامة الأسرة بتعليمهم ما يكون فيه نفع للجميع.

- خاصة لكبار الأسرة لرعاية من يرى منه خطر انحراف غلواً أو تقصيراً ليعالج بالطريق المناسبة حتى لا يستفحل هذا الانحراف يميناً أو يساراً, ومن ثم يكون العلاج مكلفاً.

- عمل برامج خاصة لنساء الأسرة بما يناسبهن –تعليماً ومهارات-.

- عمل برامج خاصة للشباب بما يناسبهم ويحمل البرنامج جميع المتطلبات الشبابية كالمهارات والرياضة وغيرها.

 

***

تلك فقرات في معالم إعادة الصلة للأرحام, ومفاده:

- إعادة قيمة التلاحم بين الأسرة جميعاً.

- إزالة الأحقاد والضغائن.

- شيوع المحبة والإخاء.

- التعاون على البر والتقوى.

- الاعتزاز بالأسرة, ومن ثم في الوطن عموماً.

- الرزق المتواصل.

- بركة العمر.

- الأجر العظيم والثواب الجزيل.

- العفو والتسامح.

- سد حاجة المحتاج وخلة العاجز.

- وغيرها كثير.

 

***

 

هكذا أراد منا ديننا, فهل نتغلب على نفوسنا الضعيفة ونرقى بها نحو المعالي, ونستعيذ بالله من شياطين الإنس والجن هذا هو المؤمل والمرجو.

ومضة: الأخوة والأخوات لأب وأبناؤهم وبناتهم من أقرب الأرحام, وصلتهم من أعظم أبوب الصلة, وقطيعتهم عظيمة.

سدد الله الخطى



بحث عن بحث