كلمات في البناء ( 1- 2 )

 

من المسلّم به أن من أهدف هذا الدين عمارة الكون الحسية والمعنوية من جميع جوانبها، وفي كلا العمارتين خير عظيم إذ بها تتم حياة الإنسان، ويرتقى في سلم الصعود نحو كل خير وفضيلة، وبهما يستثمر ماله وقدراته ومواهبه، كما يستثمر كنوز هذا الكون الذي أودعه الله تعالى إياه، وأمر الانسان بالاستفادة منه.

لا أطيل في هذا المدخل فحسبي أنها معلومة لدى كل مسلم يقرأ كتاب ربه، ويطلع على سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويكفى في الدلالة على ذلك أن أكثر آيات القرآن الكريم توجه نحو التأمل والنظر والتفكير في هذا الكون العجيب.

وعلى مدار التاريخ مكّن الله تعالى للإنسان الاستفادة بأجزاء منه كما قص علينا سبحانه في قصص الأمم السابقه، ولازال فيه من الكنوز ما لايعلمه إلا الله تعالى.

*  *  *

ومن هنا فحري بهذه القضية – أعنى عمارة الكون الحسية والمعنوية – أن تأخذ حظها الوافر من الدراسة والبحث، ووضوح رؤية الإسلام فيها، وكيفية الاستفاده منه، وطرائق ذلك، والعوائق والصعوبات التي تكرر هذه المسيرة العظيمة لهذا الكون العريض.

ولست هنا يصدد التفصيل لهذه القضية، لكني أنطلق منها إلى تقرير حقيقة أجد أننا في مسيرتنا في هذه الحياة بحاجة إلى التفاعل معها لكي نكون منسجمين مع سنن الله تعالى في هذا الكون، ذلكم هو أننا مأمورون بالبناء حسياً ومعنويا.

البناء العلمي.

والبناء الاجتماعي.

والبناء التربوي.

والبناء الاقتصادي.

والبناء الحضاري بعامة.

وغيرها...

*  *  *

إن من أعظم معالم هذا الدين حث المسير لهذا البناء، لنقرأ قوله تعالى في أول ما أنزل من القرآن الكريم: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ) .

وقوله تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ).

وقوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ).

وغيرها كثير من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية هذا فقط في البناء العلمي والمعرفي.

ومثله يقال في البناء التربوي والاجتماعي وغيرها مما أرجو أن يفصل في فرص قادمة.

وإذا كان يقال ذلك في حق الأفراد، فمن باب أولى في حق المجتمعات والأوطان والدول.

وإذا كانت هذه حقيقة مستقرة لدينا نحن المسلمين، ومؤصلة في القرآن  والسنة، فينبنى على ذلك عدة أمور، يجب أن تأخذ حظها الوافر، من التفكير، والخطط، والعمل ، ومن أهمها:-

1- أن البناء المطلوب هو الذي يجب أن يعمل به المسلم، ويبذل فيه تفكيره وجهده، في أي مجال من المجالات، ومن هنا فيجب أن يسأل المرء نفسه ما مجالى الذي أقدم فيه لبنة في هذا البناء الضخم؟ وأن نسأل المؤسسات نفسها ما البناء الذي أقدمه ضمن مسيرة هذا المجتمع أو تلك الدول؟.

2- أن من العبث والهدر للجهد والقدرات والطاقات أن تضيع الجهود سدى، ونهمل البناء، ونتجه لضياع الوقت والجهد في أمور تافهة، والله تعالى سيسأل المرء عن وقته، وشبابه، وماله، وهو سائل كل راع عما استرعاه حتى الخادم في بيت سيده.

*  *  *

إن من المؤسف أن ترى جهوداً مهدره – بدنية ومالية ونفسية .... على مستويات مختلفة لا تخدم مسيرة البناء، بل قد تصل إلى أن تكون عائقاً من عوائق هذه المسيرة ومن ذلك:-

-        ضياع وقت الشباب في النوم الطويل، والتسكع، والسهر على غير المفيد.

-        ومثله بحق الفتاة أن تهدر طاقتها في مجالات هامشية كمتابعة الفضائيات.

-        وهما معاً في العكوف على الإنترنت ساعات طويلة.

-       إهدار الأموال في كمال الكماليات مع النقص في الضرورات والحاجات كالمنافسة في (موديلات) الجوالات وكاميرات التصوير وغيرها.

-      الإهدار المعرفي في أخبار جزئية، أو كلام غير سليم، أو نشر للرذيلة كما يوجد في بعض المطبوعات الصحفية وغيرها، وأشد منها في النت.

وغيرها ذلك مما يعلمه الكثير، غير أن الذي وكد عليه أنه من المهم أن يعلم الجميع بأنه بقدر ما يهدر من الجهود والأموال بقدر ما تكون عوائق البناء.

3- أن من أهم عوامل مسيرة البناء إدراك أهم أسسه، وبخاصة لنا نحن المسلمين ومنها:-

أ‌.     أن البناء ينطلق من وحدة المجتمع وتماسكه وتعاونه، مهما جرى بين عناصر المجتمع من الخلافات الجانبية، ووجهات النظر التي ينبغي أن تأخذ مسارها العلمي في حلها والموقف منها.

إن هذه الوحدة هي منطلق البناء وركيزته الاساس، ولذا جاء التركيز عليها في القرآن الكريم، وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القولية والعملية، يكفى أن نقرأ قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ومن هذا المنطلق يتعين على الأفراد، والمؤسسات السعي لتأصيل هذه الركيزة، والمنطلق الاساس للبناء.

ومما يخدش هذه الوحدة:-

·   اعتزاز كل ذي رأي برأيه، والنظر إلى الاخرين بعين النقص، وعدم المعرفة، وأشد منه النظر إليهم بسخرية واستهزاء.

·       تجاوز مسلمات المجتمع، وثوابته الشرعية، وادعاء المعرفة في كل شئ.

·   تجاوز أهل العلم، والتطاول عليهم، والسخرية بهم، والتنقص لآرائهم، وعدم احترامهم، وهذا وحدة كفيل بخروج فئتين متناقصتين ويجمعهما رفض التوازن في المجتمع، والميل إلى الافراط والتفرط.

·   التطاول على ولي الأمر والخروج عليه فكرياً وعلمياً فضلاً عن الناحية العملية ـ وهذا جدير بأن يخرق سيننة المجتمع.

ب- القيام بالمسؤولية الملقاة على عائق المرء أيا كانت هذه المسؤولية- أسرية أو وظيفية أو علمية .... الخ، والشعور بعظمها وأهمية تحملها، وأنها جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان ووجوده فوق هذه الأرض، جاء التصريح بها واضحاً في كتاب الله عز وجل: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) والرسول صلى الله عليه وسلم يحدد معالم هذه المسؤولية بقوله: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ).

*  *  *

إن الشعور بهذه المسؤولية، يجدد عزم الموفقين، ويدفعهم للنهوض بها، ولو كانت في عينه صغيرة، أو أمام أعراف المجتمعات أنها كذلك فالله جل وعلا يحصى على المرء كل شئ صغيراً أو كبيراً ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه ) .

كما أن العيش سبهللاً، مع تدني نسبة الشعور بهذه المسؤولية ينزل بمستوى الإنسان إلى مستوى يجعله من الصعب أن ينهض بالبناء فيتجه إلى الهدم والخراب له ولمجتمعه.

جـ - إدراك الأسس، والثوابت، والأحكام الشرعية التى تضمن سلامة المسير، ومن ذلك البعد عما يخدش الدين في ثوابته وأحكامه، وكذا ما يخدش الوطنةوالمجتمع في اتحاده ومشاريعه الإنمائية والبنائية.

4- أن مجالات البناء متعددة وكثيرة تسع لجميع أفراد المجتمع جنساً وسناً وتخصصاً ووظيفة وعملا ويمكن أن يحدد المسلم المجال المناسب له من خلال قدراته وعمله وهواياته ووظيفته وبهذا تتكامل الجهود، ويصبح كل واحد في المجتمع المسلم لنبه يكمل بها البناء، ويصبح عنصراً فاعلاً في هذه البنية المتكاملة.

*  *  *

إن من الخطأ أن يتجه الأفراد أو المجتمع إلى :-

-        مجرد النقد دون الحلول الناجحة.

-        أو العبث بالمقدرات والقدرات.

-        أو عدم تشغيل طاقة الفرد فيما ينفع.

-        أو تشغيلها بما يهدم فكرياً أو اجتماعيا أو اقتصادياً أو تربوياً.

*  *  *

- ومن الخطأ:-

    إهدار الطاقات في أشياء قد تهدم ما يبنيه الآخرون، على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع، ويمكن أن نمثل بمثال واضح للجميع كمن يهدر طاقته في ( التفحيط ) أو ( إيذاء الآخرين ) أو ( التسلط عليهم).

قال تعالى: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ) ...

وللحديث بقية.

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى،،،

 



بحث عن بحث