معالم دعوية -الحج أنموذجاً-

مدخــل:

 الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

إن الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ الإسلام إلى الناس من أهم واجبات المؤمن في الحياة، يقول تبارك وتعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1)، ويقول جل شأنه: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (2)، وغيرها من الآيات التي تؤكد وجوب الدعوة على أبناء الأمة.

ويقول عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عني ولو آية"(3).

وما كان لينتشر هذا الدين ويصل إلى أصقاع العالم لولا توفيق الله تعالى ثم جهود السلف الصالح في الدعوة إلى الله، فقد سخّروا حياتهم وأوقاتهم وجميع إمكاناتهم من أجل دعوة الناس وهدايتهم.

فضل الدعوة إلى الله:

إن فضل الدعوة إلى الله كبير وأجرها عظيم، لقول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (4) . وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم خيبر "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(5). وقوله عليه الصلاة والسلام: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"(6).

كما يتبين فضل الدعوة وأهميتها أنها من سنن أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، يقول الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (7)، ويقول جل وعلا على لسان هود عليه السلام: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (8). وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ثم يقول الله تعالى عن خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (9) .

كما يتبيّن فضل الدعوة إلى الله تعالى أنها سبب في تنامي الحسنات واستمرارها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(10).

وأما مجالات الدعوة فتشمل جميع ما جاء به الإسلام في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والآداب وغيرها، ولكن أهمها على الإطلاق هو توحيد الله تعالى وإفراده بالعبودية، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوت) (11) .

صفات الداعية في الحج:

ومن أجل أن تأخذ الدعوة طريقها الصحيح ويتقبل الناس هذا الدين من دعاته فلا بد أن يتحلى هؤلاء الدعاة بمجموعة من الصفات والخصال، وهي كثيرة لا يمكن الإشارة إلى جميعها في هذا المقام، ولكن يمكن الإشارة إلى أهمها والتي تتطلبها ظروف الحج وأحواله الخاصة، وهي:

1 – إخلاص العمل لله تعالى، فلا يعتري عملَهم رياء أو مصلحة أو شهرة أو أي مكسب دنيوي، وإنما الغاية الكبرى والهدف المنشود هو إرضاء الله تعالى بإيصال رسالته إلى الناس، قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(12) .

 وقد أمر الله تعالى عباده بالإخلاص في العمل، حتى يتحقق النجاح في الدنيا ويحصل لهم الأجر في الآخرة، يقول تبارك وتعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (13).

2 – العلم الشرعي: وهو شرط مهم لنجاح الدعوة إلى الله، لأنه العلم الذي يُعرف به الحلال من الحرام، ويُعرف به المصلحة من المفسدة، والذي يدعو من غير علم ربما يدعو إلى المنكر ويحسبه معروفًا، أو ينهى عن المعروف ويحسبه منكرًا، يقول الله تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (14).

3 – الحلم والرفق بالناس، لأن ذلك يؤثر في نفس المدعو ويجعله أكثر استعدادًا لتلقي الدعوة والاستماع إلى الداعية، يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)(15)، وقول عليه الصلاة والسلام: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"(16).

فالقسوة والغلظة والجفاء لا يأتي إلا بالنفور وعدم الإنصات إلى الداعية، لا سيما أثناء أداء مناسك الحج، حيث تعب  الأسفار والتنقلات، وتعب الزحمات في كل مكان، وتعب الغربة والبعد عن الأهل والديار، وكل ذلك يستدعي الرفق بالحجاج وعدم التشديد عليهم.

4 – الصبر وتحمل المشاق، لأن الداعية معرض دائمًا للمعاناة النفسية والجسدية، الناجمة من أطباع الناس واختلافاتهم، أو من جهلهم بالأحكام ومن ثم وقوعهم في المحظورات والمحرمات، وخاصة في مناسك الحج، وهذا الواقع يحتاج منه إلى الثبات والتحمل، فلا يصيبه الملل أو الكسل بل عليه المواصلة والتوكل على الله.

5 – التواضع مع الناس، لأن النفوس جبلت على حب من يتواضع معها بالتواصل وكره من يتكبر عليها ويتعالى، فالداعية يحتاج إلى خُلق التواضع في دعوته، فيرحم الصغير ويوقر الكبير، ويعطف على المريض والضعيف، أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان عليه الصلاة والسلام أنموذجًا عمليًا لهذا الخُلق الكريم، تقول ابنة لخباب رضي الله عنهما: خرج خباب في سرية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزًا لنا، قالت: فكان يحلبها حتى يطفح أو يفيض"(17).

 

الدعوة في الحج:

إن ميادين الدعوة كثيرة لا يمكن حصرها في مكان دون غيره أو تخصيصها لفئة من الناس دون غيرهم، لأنها ميادين مفتوحة لجميع الناس، وموسم الحج من أهم هذه الميادين، لأنه أكبر تجمع إسلامي، يجتمع فيه المسلمون من أرجاء العالم على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وألوانهم وعاداتهم، وإن كثيرًا من هؤلاء الحجاج ليس لديهم العلم الشرعي الكافي بأمور الدين من أحكام العبادات والطاعات، فضلاً عما يشوب أفكار بعضهم من البدع والأساطير التي لا تمت إلى الإسلام بشيء.

وقد كان عليه الصلاة والسلام ينتهز موسم الحج في الجاهلية للدعوة إلى التوحيد وتبليغ الإسلام إلى الناس، حيث كان دخول الإسلام إلى المدينة عبر هذا القناة الدعوي، فقد أسلم مجموعة منهم في أحد مواسم الحج، وذهبوا به إلى المدينة دعاة حتى تمكّن الإسلام هناك.

وقد كان عليه الصلاة والسلام داعية في حجة الوداع، يخطب في الناس في المشاعر المقدسة، في عرفة وأيام منى وعند الجمرات، يعلّم الناس أحكام الدين ويبيّن لهم مناسك الحج، ويقول لهم: "خذوا عني مناسككم"(18).

الأدوات المعينة في نجاح الدعوة في الحج:

ويمكن إجمال هذه الأدوات في النقاط الآتية:

1 – الاستشعار بأن الدعوة إلى الله هي عبودية وطاعة كسائر العبادات، فلا من العمل والأخذ بكافة الوسائل الممكنة والمشروعة من أجل التوفيق بين أداء نسك الحج، وتعريف الناس بالإسلام الصحيح، فكلاهما من العبادات التي تقرب العبد بالله تعالى.

2 – أن يحدد الداعية مسبقًا بعض الأهداف أو المحاور التي ينوي توضيحها للناس، من خلال محاضرة أو توجيه مباشر أو موعظة عامة، ومن أمثلة ذلك:

- بيان مناسك الحج للناس وفق الهدي النبوي، والتحذير من الأخطاء والمخالفات المتكررة التي يقع فيها الحجاج.

- تصحيح الأخطاء العقدية لدى الناس، كالتوسل بالقبور والأموات وغيره.

- تبصير الناس بواجباتهم الشرعية والمحافظة على فروضهم كالصلاة والصيام.

- تبصير الناس بمحاسن الأخلاق وضرورة الالتزام بها في الحياة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن.

وغير ذلك من النقاط المهمة.

3 – معرفة استخدام الأدوات الدعوية في أماكنها المناسبة، مثل توزيع الكتب والأشرطة، أو الاجتماع بهم في المساجد، أو أماكن إقامتهم وفي المشاعر وغيرها، مع ضرورة مراعاة ظروفهم وأحوالهم.

4 – معرفة أساليب الدعوة، بحيث تكون متناسبة مع مستوى المتلقين، فلا يدخل معهم في الفروع العقدية والفكرية التي تهدر الأوقات وتشتت الأفكار وتنفّر الناس، بل تكون الدعوة في مستوى عقول الناس.

5 – الدعوة إلى الله تعالى حسب الأولويات من الدين، فيبدأ بالعقيدة ثم العبادات، وهكذا.

6 – ضرورة التنوع في الدعوة، بحيث لا يسير الداعية على نهج واحد ولفترات طويلة، من أجل تذكير الناس وتعريفهم بدينهم، فلا يقضي كل وقته مثلاً على شرح مناسك الحج عبر الدورس في المسجد، بل ينوّع بحيث يكون أحيانًا عبر شاشة عرض تلفزيونية، أو على شكل كتيب، أو يكون من خلال مسابقة بالسؤال والجواب، حتى لا يصيب الناس الملل والسآمة.

7 – مشاركة الحجاج معهم في الدعوة، وهذا نوع من التشجيع للقيام بنشر الدعوة حتى خارج مواسم الحج، لا سيما الوافدون من البلاد النائية والبعيدة عن الديار المقدسة، ليصبح هؤلاء رسل خير لأهلهم وبلادهم بعد الحج.

بعض الأساليب الدعوية الناجحة في الحج:

من خلال التجارب الدعوية الكثيرة في مواسم الحج، تبين أن هناك بعض الأساليب التي أسهمت في تعريف الناس الناس بمناسك الحج وسائر الأحكام المتعلقة بالعبادات والحلال والحرام، ومن أهم هذه الأساليب:

1 – شرح مناسك الحج يوميًا، بالفيديو أو عن طريق بيان صباحي، وتكرار هذا الشرح في سائر اليوم، لأن الناس أحيانًا لا يفهمون في المرة الأولى أو الثانية.

2 – المحاضرات والندوات بحسب نوع الموجودات مع تحديد موضوعاتها.

3 – تحديد شيء من حفظ القرآن الكريم، ويختلف باختلاف الناس ومداركهم وقدراتهم.

4 – المسابقات الهادفة، والتي تركز في الغالب على شرح مناسك الحج، وسائر الفرائض، وتقديم الحوافز التشجيعية والهدايا للمشاركين.

5 – فتاوى الحج، من خلال سؤال وجواب، ويستفاد من فتاوى الحج لأهل العلم المعروفين.

6 – ربط الحجاج بصفة حج النبي صلى الله عليه وسلمن ويكرر ذلك بوضوح.

7 – تشغيل الأشرطة النافعة، كالتلاوات والخطب والدروس بحيث تقدم في أوقات مناسبة، وليس في أوقات القيلولة أو النوم.

8 – التعاون والتنسيق بين الدعاة في المواقع المختلفة، حتى تتحقق أهداف الدعوة في تعريف الناس بالإسلام والأحكام بصورة متكاملة.

أخطاء يجب تجنبها في الحج:

1 – الحذر من الرياء أو السمعة أو المكاسب الدنيوية الأخرى.

2 – الوضوح في الدعوة، حتى يصبح الناس على بينة من الأمر، لأن الغموض يشوش على الناس أداء المناسك ويكثر عليه الاختلافات.

3 – معرفة أن كلمة (لا أدري) نصف العلم، فليس من الضروري أن يعرف كل شيء، وإذا أشكل عليه الأمر رجع إلى فتاوى العلماء.

4 – اتباع الوسطية في الدعوة إلى الله، من غير غلو أو تهاون.

5 – استقبال الناس ببشاشة وابتسامة، لأن طلاقة الوجه تبشر بالخير وحسن الاستماع.

6 – رفع الحرج عن الناس وعدم التضييق عليهم بالترهيب والتخويف، فقد كان عليه الصلاة والسلام سهلاً مرنًا، لا سيما في الحج، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: فما رأيته – عليه الصلاة والسلام - سئل يومئذ عن شيء إلا قال: "افعلوا ولا حرج"(19).

*      *      *

 

نسأل الله تعالى أن يعين جميع الحجاج على أداء مناسكهم، وشكر الله سعي كل عامل للحج والحجاج، ووفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح العباد والبلاد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

                                                 وكتبه

                                                 فالح بن محمد بن فالح الصغير

المشرف العام على شبكة السنة النبوية وعلومها

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 


(1)  - سورة النحل، الآية 125.

(2)  - سورة آل عمران، الآية 104.

(3)  - رواه البخاري.

(4)  - سورة فصلت، الآية 33.

(5)  -رواه البخاري.

(6)  -رواه الإمام أحمد.

(7)  - سورة الأعراف، الآيتان 61-62.

(8)  - سورة الأعراف، الآيتان 67-68.

(9)  - سورة المائدة، الآية 67.

(10) -رواه مسلم.

(11) - سورة النحل، الآية 36.

(12) - سورة هود، الآية 51.

(13) - سورة البينة، الآية 5.

(14) - سورة يوسف، الآية 108.

(15) - سورة آل عمران، الآية 159.

(16) - رواه مسلم.

(17) - رواه أحمد.

(18) - رواه الإمام أحمد.

(19) - صحيح مسلم، رقم3163، ص550.



بحث عن بحث