فقه الاجتماع ، وفقه الخلاف (2)

 

الوقفة الرابعة : في بيان ما يسوغ فيه الخلاف وما لا يسوغ في القضايا الشرعيه.

ولعل حصر مالا يسوغ الخلاف فيه في ضوابط ومعالم يبين لنا دائرة ما يتسع فيه الخلاف ومن هو الذي يخالف؟

 

*  *  *

 

أما ما لا يسوغ الخلاف ولا يجوز لأحد أن يخرج رأياً أخر فقد ضبطه أهل العلم بمجموعة ضوابط منها :-

     1- ما كان معلوماً من الدين بالضرورة وجوباً أوتحريماً وذلك مثل وجوب الصلاة و الزكاة و الصيام وبر الوالدين و الأمر بالعدل وغيرها من الواجبات وفي المقابل تحريم السرقة و القتل و الاعتداء وشرب الخمر والزنا وغيرها من المحرمات .

     2- ما انعقد عليه الإجماع ولم يخالف فيه أحد من أهل العلم  ومن هنا ارتفعت مكانة الإجماع إلى أن يصبح مصدراً من مصادر التشريع وقد حصر أهل العلم كثيراً من الإجماعات في الكتب.

     3- ما كان الخلاف فيه شاذاً أو غير معتبر مما نص عليه أهل العلم ، فمن المعلوم أن بعض المسائل قد يخالف عالم لم يبلغه دليل أو حكاية إجماع ، أو يفهم فهماً آخر لدليل آخر أو غير ذلك من الأسباب فهذا الخلاف يسميه أهل العلم خلافاً شاذاً أو خلافاً غير معتبر فمثل هذا لا يعتد به.

     4- ومن بدهي الضوابط وأذكرها للتأكيد وهي أصول الدين كأركان الإيمان بالله  ومن هنا نقرأ ونسمع ما يردد من أن الثوابت لا يختلف عيها ولا يجوز الخلاف فيها وكلمة: (الثوابت) مصطلح حادث لم يعرف في كتب الخلاف وإن كانت في ظاهرها اللغوي تدل على ما هو أعم من (أصول الدين) لتشمل كل ما ثبت في الشرع أو لا يتغير بتغير الأحوال أو الأزمان أو الأماكن ، وقد يقال: لا مشاحة في الاصطلاح وأقول : نعم إذا تبين المصطلح ومدلوله ، والمقصود وضوح المصطلح ودلالته.

وبناءً على هذه الضوابط ندرك أن كثيراً من المسائل التي تطرح –كتابة وإلقاء- لا تقبل الخلاف إذا أن حكمها قد استقر سواء كان في أصول الدين أو فروعه .

فلو أخذت مراتب الدين المبنية على حديث جبريل عليه السلام في سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن : الإسلام و الإيمان و الإحسان و الساعة لوجدت أن ما لا يجوز فيه الخلاف أكثر مما يسوغ فيه الخلاف فأركان الإسلام وأركان الإيمان و أركان الإحسان وقيام الساعة وعلاماتها لا يسوغ فيها الخلاف وقل مثل ذلك فيما هو أكثر تفصيلاً في داخل كل ركن من الأركان .

و الخلاصة : أن من الخير للمسلم أن يدرك أن مساحة ما لا يسوغ الخلاف فيه مساحته كبيرة جداً ، وهذا يدل على ثبات هذا الدين ورسوخه وعظمه ويسره .

أما ما يجوز فيه الخلاف فهو ما كان غير ذلك مثل فروع الدين التي لا تنطبق عليها تلك الضوابط وهي –ولله الحمد- موجودة مستقرة فيما بين أيدينا من المصادر.

وقد أبحر فيها أهل العلم واختلفوا ورائدهم في ذلك : الإخلاص و الظن الحسن و العلم والدليل .

وجاءت كتب الفقه وشروح الحديث و التفاسير مليئة بذلك.

وهذا الذي تحدث عند بعض أهل العلم في كتب الخلاف وبينوا أصوله وضوابطه و آدابه

 

*  *  *

 

وعليه ندرك نتائج مهمة:-

    1-أن هناك ضوابط لما لا يسوغ فيه الخلاف.

    2-وأن مساحته واسعة جداً.

    3-وأن الخلاف السائغ فيما عدا ذلك.

   4-وأنه لا يجوز الخوض فيما لا يسوغ الخلاف فيه كما يظن بعض الكتاب و المتحدثين.

 

*  *  *

 

الوقفة الخامسة: غني عن القول أن الخلاف عند وقوعه يجب أن يكون بأصوله و ضوابطه و آدابه ومنها :-

     1- أن يبنى على دليل من القرآن أو السنة النبوية أو القواعد الشرعية بما هو مفصل في مظانه.

     2- أن يكون من عالم بهذا العلم أو تلك المسألة فلا يجوز أن يخوض فيه من شاء بما شاء ومن ثم يقال: لا مانع من الخلاف فمثل هذا سبيله التعلم فإذا بلغ رتبة الفهم و الاجتهاد و القدرة على الترجيح فله ذلك.

     3- أن يكون بإخلاص لله سبحانه وتعالى ومع التحري لإصابة الحق وبالأدب في الخطاب و الظن الحسن وغيرها من الآداب وكما يحب المخالف  أن يفهمه الآخرون عنه يكون هو كذلك.

 

*  *  *

 

الوقفة السادسة: ما موقف المسلم مما اختلف فيه أهل العلم ؟ هل له أن يختار قولاً من الأقوال ؟ وهل يجوز أن يأخذ من هذا تارة وذاك تارة ؟ أو ماذا؟

ولا شك أن هذه المسائل في غاية الأهمية إذا يبنى عليها عمل المسلم في هذا الحياة كما ينبني عليها جزاؤه في الآخرة وعليها سعادته في الدنيا و الآخرة .

وخلاصة ما ذكره أهل العلم :   أن المسلم إما أن يكون طالب علم يميز بين الأقوال و أدلتها ولديه القدرة على ذلك فهذا يأخذ بما يستطع فيه التمييز ولا يقلد غيره إلا إذا لم يتبين له ما يميز به القول ، أما إذا لم يكن طالب علم يميز بين الأقوال و أدلتها فهذا عليه أن يأخذ بفتوى غيره و ممن يثق بدينه وعلمه وإذا تعددوا لديه فيأخذ بالأوثق لديه.

وبناءً عليه فليس للمسلم أن يتخير قولاً من أقوال العلماء كيف شاء وليس له أن ينتقل بين أهل العلم ليختار الأسهل أو الموافق لما يريد فهذا من إتباع الهوى ومن إتباع الرخص وقد قيل: (من تتبع الرخص فقد تزندق).

 

*  *  *

 

الوقفة السابعة: وبين هذا وذاك أو قل بين أصول الدين وفروعه مسائل تقرب من هذا تارة وتبعد عن هذا تارة ويرد فيها الكلام كثيراً وذلك في وسائل الحياة ومنهجها وأساليبها مثل وسائل الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ووسائل الإغاثة ونفع الآخرين و الإصلاح وقضايا إدارة الحياة ونحوها وسبب السؤال هو أن كثيراً من الخلافات تقع فيها ، وتكون مثاراً للجدل المتواصل ، و الذي يظهر أن الأمر فيها واسع إذا كان وفق الضوابط الشرعية مثل الغاية لا تبرر الوسيلة ً . وهذا يدل _بلا شك_على سعة هذا الدين وسماحته ويسره .

 

 

*  *  *

 

الوقفة الثامنة : لا شك أن من أهم ما يقرب هوة الخلاف ما يلي:-

       1- تجديد الإخلاص لله سبحانه وتعالى في جميع الأقوال و الأعمال.

       2- مغالبة النفس في تحري إصابة الحق بدليله ولو خالف الهوى أو الواقع أو غير ذلك.

       3- الظن الحسن والتماس المعاذير للمخالف وحمله على المحامل الحسنه مادام أنه يسوغ له الخلاف .

       4- اللقاءات العامة ، و النقاش الفردي و الحوار الجماعي بآدابه و أصوله وتربية النفس على الجدال بالتي هي أحسن .

       5- كثرة القراءة و البحث و الإطلاع في المسائل المختلف عليها وبخاصة النوازل التي تحتاج إلى مزيد من النظر و القراءة والتأمل .

      6- عدم العجلة في الحكم وعدم التسرع في الأحكام على الأقوال أو على مخالفين و أخص مسائل النوازل الكبيرة التي قد تعصف بالناس جراء قول من هذه الأقوال المستعجلة .

      7-    محاوله علاج الغلبة في النفس وحب الانتصار لقول أو لإيجاد رأي قبل الآخرين.

      8- مجانبة الغمز واللمز و التسرع في الاتهام و الدخول في المقاصد فإن هذه و أمثالها آفات توصل إلى التفرق المذموم وتوسع مداخل الشيطان.



بحث عن بحث