العام الهجري  28 – 1429 هـ وقفة تأمل

 

اعتاد كثير من المتحدثين و الخطباء و الكتاب في نهاية كل عام وبداية العام الذي يليه  أن يتحدثوا عن هذه المناسبة ويركزوا فيها على موضوعين:

1- موضوع محاسبة النفس على ما قدمت في عامها المنصرم من أعمال حسنة وإيجابية وأعمال أخرى غير ذلك فتستمر فيما هو حسن وتنتهي عن الأعمال السيئة وتستغفر الله تعالى عن الأخطاء و الهفوات لتبدأ بعدها مرحلة جديدة وعاماً جديداً لتقدم على الله تعالى بأعمال حسنة جديدة وتوبات وإنابات لعل أن الله تعالى يجعلها مقبولة عنده.

2- أما الموضوع الآخر وهو الحديث عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وما فيها من الدروس و العبر و الوقفات و التأملات التي يجب أن يضعها المسلم معالم لمنهاج حياته وذلك باعتبارها جعلت مبدأ التاريخ للسنة الهجرية.

ولا شك في أهمية الموضوعين فأما الأول فشأنه عظيم وقد ورد عدد من الآيات و الأحاديث النبوية تذكر بعظم المحاسبة وأهمية التقويم و النظر إلى المستقبل و الاعتبار بالماضي وإصلاح الحال والتطوير فيما كل ما من شأنه إيجابي قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...) وقال سبحانه: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ...) وقال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسيا أو غنى مطغيا أو مرض مفسداً أو هرماً مفندا أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والمراد بادروا باغتنام هاتين النعمتين قبل أن تزولا. وقد جاء في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر).

 

*    *    *

 

وتوالت الكلمات و المقالات و الحكم من العهد النبوي إلى يومنا الحاضر مؤكدة على عظم هذا الأمر وقوة أثره في التقويم.

و نضيف هنا:

أ- أن جميع الكلام في هذا الباب  ما لم يتخذ المرء فيه خطوة عملية جادة في حياته يقف مصارحاًً نفسه لأنه أعلم بها من غيرها فلن يجد من يصارحه إلا ربه تعالى يوم القيامة فليبدأ من هذه الساعة قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها.

ب- أن تكون هذه المحاسبة على أنواع يومية وشهرية وسنوية وعمريه ولا تقف عند هذه المناسبة فحسب.

ج- أن تكون المحاسبة في التعامل المالي و النظر في أعمال القلوب والعلاقات بينه وبين نفسه ومع الآخرين ابتداء بوالديه وأسرته وجيرانه وبزملاء العمل وعامة المسلمين.

د- أن ما وجده في نفسه أعمال حسنة موفقة،عليه أن يحمد الله تعالى ويشكره عليها ويسأله الثبات والاستمرار وما وجده غير حسن فعليه أن يعاهد الله تعالى على تركه فإن كان ذلك في حقوق الآخرين فليتحلل منهم والحقوق إن كانت مادية فيلزم ردها إلى أصحابها و إن كانت معنوية ولم يستطع ردها فيكثر الدعاء لأهلها و الثناء عليهم ويسأل الله تعالى المغفرة.

هـ- من الخير للمسلم وهو يحاسب نفسه أن يضع لها ميزاناً يعرف به تقدمها وتأخرها و المواضع الإيجابية والسلبية ولعل من أوضح ما يذكر هنا ما بينه سبحانه وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ...).

و- أن تكون محاسبة الإنسان لنفسه واقعية فلا ينحو نحو المثالية التي لا يستطاع الوصول إليها وفي الوقت نفسه لا ينزل بمستوى نفسه فيرضى بالدون ومن رضي بالدون كان من الخاسرين.

 

*    *    *

 

وبعد فإن المحاسبة ليست لهذه المناسبة فحسب بل هي دائمة مادام الإنسان على قيد الحياة ويبقى السؤال عن موضوع المحاسبة و الجواب هو أنت، أعمالك، وأهدافك، ومسارك في هذه الحياة وأخلاقك كما سبقت الإشارة إليه في هذه الكلمات.

 

*    *    *

 

 أما الموضوع الثاني وهو الحديث عن الهجرة فالمقام معها يطول، ويبقى البيان أنها ليست مرتبطة بهذا التاريخ، إذ هي تمت في ربيع الأول على الصحيح، وهي حدث أيما حدث غير مجرى التاريخ فيحتاج إلى مطولات، نسأل الله تعالى أن يوفق للحديث عنها.

 وما  مر فيها من الحوادث وما يستنبط منها من الدروس والعبر لما يجعله المسلم من منارات الحياة.

وقبل الختام أقول: ولعلنا ونحن نودع عاماً ملئ بالأحداث على المستويات العالمية مما اشتعل من الحروب الطاحنة، والعنف الذي اتسعت رقعته في بلدان من العالم الإسلامي مختلفة، و من تناحر الفرق الإسلامية فيما بينها، وتسلط الأعداء الإسلام على أمة الإسلام، وبخاصة ما يفعله اليهود في فلسطين، وغيرها من أحداث تدعو المسلمين في كل مكان-حكاما وشعوبا – إلى المراجعة الدقيقة، والتقويم الشامل لمناهج تعاملهم مع دينهم، والنظر بجدية إلى الأولويات في حياتهم، ومن أخصها العودة الصادقة إلى ربهم، واللجوء إليه وبخاصة أن الشدائد كثيرة على المسلمين ، وهذا يتطلب في نظري:

أ) تجديد التوبة والإنابة على مستوى قادة الأمة من الحكام والعلماء والساسة الاقتصاديين والتربويين والمفكرين وغيرهم.

ب) تصحيح كثير من المناهج الخاطئة في نظم الحياة المختلفة.

ج) التكاتف والاجتماع على الكتاب والسنة، فكفى فرقة واختلافا وتنازعاً، أليس من المخجل أن أمة أعزها الله بهذا الدين أن تتناحر وتختلف في جزئيات الحياة ليلتهمها أعداؤها. كما حصل الآن في بقاع من العالم مختلفة.

د) أخص الدعاة في العالم إلى مراجعة تعاملهم مع الدعوة إخلاصا وصدقاً، ومنهجاً وتمسكاً، فإلى متى إعجاب كل ذي رأي برأيه، وكفى غمزا ولمزاً، وقدحاً، فالوقت لا يحتمل مزيد فرقة. ولا اختلاف فالعدو لا يفرق.

ويبقى الميزان: كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هـ) وعلى مستوى الشباب بعامة أقول بكل وضوح وصراحة: كفى تخبطاً بين المناهج من هنا وهناك فلنا مرجعية واضحة وهي: العلماء المعتبرون الذين زكاهم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. فلمَ الحيدة عنهم ؟ و نحن نعلم أنه عندما حاد كثير من الشباب عن هذه المرجعية وقعوا في ظلمات التكفير، وغياهب الانحلال، وما ذاك إلا لتركهم الجادة. فالله الله أيها الشباب والفتيات للرجوع الصادق للمرجعية الصادقة قبل أن يقول الجميع : ياليت، ولكن لا تنفع شيئا ليت..

و الله من وراء القصد...



بحث عن بحث