الوقفة التاسعة

من مجالات التجديد: التجديد في الوسائل

إن الدين ثابت لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، والنصوص الإلهية محفوظة بحفظ الله ورعايته، لا يطرأ عليه التغيير والتبديل، وإن حاول أحد النيل من هذا الدين الحنيف فسيقيِّض الله من يكشف عن هذا الزيغ والضلال، كما قام جهابذة العلماء قديمًا وحديثًا فأزاحوا عنه الباطل, وبينوا الصواب من الخطأ، وميزوا الخبيث من الطيب، وهذا هو التجديد الذي بشر به نبينا محمد  صلى الله عليه وسلم  ، فاتضح مما سبق أن التجديد لا يكون في مبادئ الدين وأسسه، بل في الوسائل والطرق التي يكشف بها عن الحقيقة؛ وقد استعمل العلماء في القديم الوسائل المتاحة لهم، وفي زمننا قد منّ الله علينا بابتكارات علمية جديدة، وتقنيات هائلة عديدة, يمكن استعمالها في الدعوة ونشر الدين إلى جميع آفاق الكون، فاستعمال هذه التقنيات والابتكارات في المجال الدعوي يعتبر من التجديد، ولذا سنركز في هذه الوقفة على الكلام عن التجديد في وسائل الدعوة، حيث إن استعمال هذه الوسائل في الدعوة والتوجيه -مع عدم إغفال الجوانب الأخرى- يعتبر من التجديد.

وقبل التفصيل نود أن ننبه هنا إلى قاعدة هامة في الدعوة وغيرها، وهي: أن الغاية لا تبرر الوسيلة, فلا تبلغ دعوة الله بوسائل محرمة, أو غير شرعية؛ كالغناء المحرم, أو التجريح والغيبة. فنرى كثيرًا من الفِرَق الإسلامية, والحركات الدينية, قد ضلّوا السبيل, وجانبوا الطريق القويم, وانحرفوا عن جادة الصواب, بسبب تطرقهم إلى وسائل غير مشروعة, وأوضح مثال على ذلك بعض طرق الصوفية, فقد اختاروا الوسائل المحرمة كالغناء والرقص وغيرها, فلعب الشيطان بعقولهم, فضلّوا وأضلّوا الناس عن الدين الحق، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا, والله المستعان!

من التجديد: اتخاذ الوسائل المناسبة والأساليب المفيدة في الدعوة:

الوسيلة: القربة, توسل إليه: تقرب إليه, وهي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود, وفي المجال الدعوي؛ هي الطريقة التي توصل بها الدعوة, أو هي ما يستعين بها الداعي على تبليغ الدعوة إلى الله على نحو نافع مثمر(أولاً: وسائل التبليغ:

أ- التبليغ بالقول: أن يستعمل الإنسان الكلام والنطق في الدعوة، وله أنواع؛ منها: الخطبة, والدرس, والمحاضرة, والمناقشة, والنصيحة الفردية وغيرها(ثانيًا: أساليب الدعوة:

وأساليب الدعوة المذكورة في الكتاب والسنة كثيرة، ومنها:

أ- أسلوب الترغيب: والقصد من الترغيب استعمال كل ما يشوق إلى الاستجابة, وقبول الحق, والثبات عليه, لنيل رضا الله ورحمته وجزيل ثوابه في الآخرة.

ب- أسلوب الترهيب: نقصد بالترهيب التخويف من غضب الله وبطشه وعقابه وعذابه في الآخرة؛ فهذا الأسلوب يحذر العباد من عاقبة عصيان الخالق, أو التفريط في حقوق العباد، والداعية الحصيف هو الذي يجمع بين الترغيب والترهيب كما جمع الله تعالى ذلك في القرآن، ولا يطغى أسلوب على آخر، فإن طغى الترغيب تساهل الناس في المعاصي، وإن طغى الترهيب أيس الناس وقنطوا من رحمة الله، والموفق من جمع بينهما.

ج- أسلوب التعليم: إن العلم ضروري لكل فرد من أفراد المجتمع، وبالأخص للمسلمين الجدد, فإذا حصلت الاستجابة من المدعو وقبل الدعوة، وجب على الداعي أن يعلِّمه بما يحتاج من علم شرعي للقيام بمسؤولياته, فقد ثبت عن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه حينما أسلم عمير بن وهب قال لأصحابه: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن»([4]).

و- التربية بالأخلاق: التربية على الأخلاق الطيبة كالشجاعة, والكرم, والوفاء, والصدق في القول، وعدم الكذب, والخيانة, والغدر وغيرها.

هذه بعض الوسائل والأساليب التي إذا استعملها الداعية في دعوته يفيد الأمة كثيرًا بإذن الله.

p  ثالثًا: من التجديد: المنهجية في الدعوة:

n    منها: التخطيط السليم في الدعوة :

إن الدعوة إلى الله كأي عمل آخر تحتاج إلى تخطيط سليم، وتدبير دقيق, ويترتب عليه نجاح الدعوة وفشلها بعد إرادة الله تعالى، وكان الرسول  صلى الله عليه وسلم  يسير في دعوته بتخطيط مدروس, وهذا واضح في سيرته الدعوية كلها, بل كان يسير بعناية الله تعالى, فنرى مثلًا واقعة الهجرة, كيف خطّط تخطيطًا دقيقًا حتى وصل برعاية الله تعالى إلى المدينة سالمًا بدون أن يصيبه أحد بأذى. وهكذا يجب أن تسير الدعوة في جميع مشاريعها على مستوى الداعية الفرد، وعلى مستوى الدعوة بأكملها.

التخطيط السليم والمنهجية في الدعوة من أسباب النجاح في الدعوة؛ لأن الدين دين الله تعالى، ولن تغلق الأبواب كلها، بل إن سدّ له باب انفتح له باب آخر، ومن ثم فلا ييأس الداعية من العوائق، بل يحسبها من مقدمات النجاح.

n    ومنها: المحاسبة والتقويم:

يلزم للدعوة أن تحاسب نفسها بعد كل فترة, وتقوّم عملها وأهدافها ومشاريعها بين حين وآخر, هل طرأ على أفرادها كلل أو فتور؟ وهل هم على جادة الصواب أم جانبوها؟ وهل هم مستمرون على المنهج السليم أو اختاروا المنهج الفاسد؟ وما هي الثمار التي اقتطفوها خلال هذه المدة؟ وما هي النتائج التي استثمروها في دعوتهم؟ وكما يلزم هذا التقويم أي مشروع دعوي، فيلزم كل فرد داعية لأجل أن يكون ذلك عاملًا في استمراره في دعوته.

n    ومنها: التوازن بين المتطلبات العقلية والروحية والجسمية, في البيت, والشارع, والميدان, والمدرسة، فرسول الله  صلى الله عليه وسلم  كان يشارك أهله، ويقود الجيش, ويقوم الليل, وهكذا في جميع الأمور، فلنا في رسول الله أسوة حسنة.

وينبني عليه عدم الغلو أو التقصير, أو الإفراط أو التفريط، كما قال تعالى عن صفات عباده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان:67]. فيجتنب الإفراط والتفريط في الدعوة، فلا يقصر ولا يتجاوز الحد، والطريق الوسط هو المطلوب في جميع الأمور، وكما نعلم أن خير الأمور أوسطها.

وإن الشريعة كاملة وشاملة فلا تفرق بين الدين والدنيا، بل جميع الأعمال تصير عبادةً بنية التعبد لله ﻷ، ولذلك علَّمنا الرسول بأن نهتم بجميع الأمور التي تحتاجها الأمة، ونسأل الله العافية والحسنة في هذه الدنيا وفي الآخرة، في الحديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً, وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً, وَقِنَا عَذَابَ النَّار»([6]).

وَقَالَ الشَّيْخ عِمَاد الدِّين ابن كَثِير: «فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحَسَنَة فِي الدُّنْيَا تَشْمَل كُلّ مَطْلُوب دُنْيَوِيّ؛ مِنْ عَافِيَة, وَدَار رَحْبَة, وَزَوْجَة حَسَنَة, وَرِزْق وَاسِع, وَعِلم نَافِع, وَعَمَل صَالِح, وَمَرْكَب هَنِيء, وَثَنَاء جَمِيل إِلَى غَيْر ذَلِكَ, مِمَّا شَمِلَتْهُ عِبَارَات المفسرين، ولا منافاة بينها، فَإِنَّهَا كُلّهَا مُنْدَرِجَة فِي الحَسَنَة فِي الدُّنْيَا, وَأَمَّا الحَسَنَة فِي الآخِرَة: فَأَعْلَاهَا دُخُول الجَنَّة, وَتَوَابِعه مِن الأَمْن مِن الفَزَع الأَكْبَر فِي العَرَصَات, وَتَيْسِير الحِسَاب, وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أُمُور الآخِرَة, وَأَمَّا الوِقَايَة مِنْ عَذَاب النَّار فَهُوَ يَقْتَضِي تَيْسِير أَسْبَابه فِي الدُّنْيَا مِن اجْتِنَاب المَحَارِم والآثام، وَتَرْك الشُّبُهَات والحرام»([8]).

فعلى الداعي أن يوجد توازنًا بين الدعوة وأمور الدنيا، فإن أهمل الدعوة خسر الآخرة، وإن أهمل الدنيا فلعله يبتلى بفقر مدقع فلا يصبر، والأمر بينهما.

n    ومنها: اختيار أقوى الطرق تأثيرًا إلى قلب المدعو بحسب ما تيسر من الوسائل:

وقد أشير إلى قاعدتها في هذه الآية الكريمة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل:125].

فأمر الله نبيه أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن؛ برفق, ولين, وحسن خطاب، كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت:46].

ومن الحكمة: العمل بها بمعرفة المكان والزمان والحال التي يمارس فيها الدعوة؛ فالحكمة وضع الشيء في موضعه، وقد أمر الله تعالى نبيه بها، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل:125].

ومن الحكمة: اغتنام الفرصة المناسبة للدعوة، وهذا ما نجده في قصة يوسف حين جاءه الفتيان وقصَّا عليه رؤياهما واستفسرا التعبير, فاغتنم الفرصة ودعاهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك قبل أن يخبرهما بالتعبير. قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿39مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف:39-40].

n    ومنها: اختيار المكان المناسب للدعوة، كما كان النبي  صلى الله عليه وسلم  يختار المسجد لتوجيه الصحابة إلى الخير, فيختار الداعية لدعوته المسجد, أو مكانًا هادئًا, بعيدًا عن الأسواق والشوارع التي فيها شغب وصخب، أو أمكنة الملاهي، ونحو ذلك.

n    ومنها: اختيار الموضوع المناسب للدعوة؛ لأن لكل فنٍ رجالًا, ولكل مقامٍ مقالًا, فيختار الموضوع المناسب للمقام, حتى لا يثقل على المدعوين, وبالتالي يفقد استجابتهم لكلامه.

n    ومنها: مراعاة أحوال المدعوين, هل هم الجمهور من العوام, أو النخبة المثقفة منهم، أو من الطلاب, أو الطالبات, أو الأطباء, أو الدعاة وهكذا. فيلزم الداعية إعطاء كل ذي حق حقه، في نوعية الخطاب والكلام، فالرجال يختلفون عن النساء، والصغار يختلفون عن الكبار، وهكذا.

n    ومنها: تنوع البرامج: البرامج الدعوية إذا كانت على نمط واحد فإن المدعو قد يمل، لذا لا بد من تقديم البرامج المتنوعة، فإنها تشد انتباه المستمعين، وتترك أثرًا عميقًا في قلوبهم ومن ثمّ على سلوكهم. وأن تكون على فترات متباعدة مخافة السآمة؛ كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الله يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟! قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ, وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ  صلى الله عليه وسلم  يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا([10]).

n    ومنها: تقدير المصالح والمفاسد الشرعية، فيعمل للمصالح وتكثيرها، ويدرأ المفاسد ويقللها. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشرع، وأصل عظيم من أصوله، فيتنبه إليه.

وقد ترك النبي  صلى الله عليه وسلم  بعض الأشياء مراعاة المصلحة العامة، فعلى سبيل المثال: هدم الكعبة وبناؤها من جديد، فعَنْ عَائِشَةَ ل زَوْجِ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  أَنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  قَالَ لَهَا: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ, فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلتُ»([12]).

ومما يساعد على العمل بهذه الوسائل: صحبة العلماء الربانيين والدعاة الصادقين: بحيث يشدون أزره، ويقوونه على تجاوز العقبات، وإن اتخاذ الصحبة الطيبة من الوسائل المعينة على التحمس للدعوة، وتجاوز العقبات؛ لأن المرء ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه الصالحين، والرجل الصالح لا ترى منه إلا خيرًا؛ ففي الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى ا، عَن النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ؛ فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً, وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»(رابعًا: ومن التجديد استخدام الوسائل المستجدة في الساحة:

إن الزمن الذي نعيش فيه عصر التقنية والاختراعات العلمية، فهذا فضل من الله تبارك وتعالى وحده، وهذه الاختراعات والابتكارات والتقنية الهائلة قد سهلت كثيرًا من الأمور في عالمنا اليوم، ويعيش الإنسان حاليًا في عصر يسهل عليه الحصول على أي مادة أو معلومة في وقت قياسي قصير وبأسرع الطرق.

وهذه التقنية يمكن استعمالها في الخير وفي الشر، ولكن ما نراه في واقعنا اليوم أن أعداءنا يستعملونها في الشر وفي إفساد الشعوب الإسلامية دينيًا وخلقيًا، مما أحدث فجوةً بين الإسلام وبين العاملين بها، وبالأخص بين الشباب الذين هم الثروة النابضة للأمة، وما نراه من الاعوجاج الخُلقي، والبعد عن الدين، والاغترار بالحضارة الغربية المادية ما هو إلا أثر من آثار استعمال هذه التقنية الجديدة في الشر وفي الإفساد، فالمفروض أن تكون هذه التقنية نعمة، ولكن جعلناها نقمةً، فالله المستعان!

فلذا نقول: إن أي وسيلة جديدة يجب الإفادة منها, لا مطلق الاندفاع للجديد, ولا مطلق الرد لاستنكار الجديد. وإذا اجتهد مجتهد فرأى أن استعمال هذه الوسائل في الدعوة له أثر محمود، وعنده أدلة في هذا الأمر، فالذي نرى: عدم الاستعجال في الحكم مع عدم لوم المجتهد مادام أنه اجتهد مع بيان الدليل.

وفيما يلي نعرض بعض الوسائل الجديدة التي يمكن استعمالها في المجال الدعوي, فمنها:

n    استعمال وسائل التوصيل في المجال الدعوي: ومنها السيارات المسرعة، والقطارات والطائرات والبواخر وغيرها، ومن ثم إيصال الكلمة إلى الناس، وكذالك إرسال الكتب والرسائل والمطويات وغيرها إلى المستفيدين. وبالفعل بدأ بعض مكاتب الجاليات يستعمل السيارات التي يسمونها «السيارات الدعوية» حيث توجد فيها كمية كبيرة من الكتب والمطويات والرسائل والنشرات، وتوزع في المواسم مثل موسم الحج، وموسم رمضان وغيرها، وهذا شيء محمود، ونود أن يكثر استعمالها في مثل هذه النشاطات، ويطور إلى الأفضل.

n    الجوال الدعوي: يمكن استعمال هذه الوسيلة الحديثة في المجال الدعوي في التوجيه والنصح والإرشاد إلى من يملك الجوال، وبإرسال رسائل قصيرة تشتمل على التوجيه والتذكير، وفي أيامنا هذه نادرًا ما يوجد شخص الذي لا يحوز على جوالٍ، فيا حبذا لو استعملناه في المجال الدعوي، وبالأخص بعض شركات مزودي الخدمة تغري المستخدمين بإعطاء مدة من الزمن للمكالمات مجانًا، وكذلك كمية غير قليلة من الرسائل المجانية، لذا نرى لزامًا على الجميع وبالأخص على الدعاة أن يغتنموا هذه الفرصة، ويستعملوها في ما يعود نفعها على الأمة في الدنيا وفي الآخرة.

n    استعمال الإنترنت: الشبكة العنكبوتية العالمية التي تسمى «الإنترنت» وسيلة حديثة، غزت كل بلد وكل قرية بل وكل بيت ولعله كل فرد، وهي أيضًا «سلاح ذو حدين»، فمن الناس من يستعملها في الخير, ومنهم من يستعملها في الشر، ومنهم من يستعملها في المباح، ومنهم من يستفيد منها فوائد مادية وتجارية وغيرها، فالدعوة أحرى أن تستخدم هذه الوسيلة العظيمة النفع.

ولعل من الفائدة أن نذكر: استشعارًا بأهمية هذه الوسيلة واستخدامها في المجال العلمي والمجال الدعوي قمنا بافتتاح موقعٍ متخصصٍ للسنة التي تهتم بالسنة وعلومها، والسيرة النبوية والشمائل المحمدية(البريد الإلكتروني: وهذه الوسيلة تأتي ضمن الإنترنت، ويمكن استعمالها في المجال الدعوي، متمثلًا في إرسال الرسائل الدعوية واستقبالها من الآخرين، والاستفتاء من المشايخ عبر هذه الوسيلة، وكذا النصائح, والتوجيهات, والتنبيهات, والمراسلات الخاصة, والفوائد وغيرها.

n    استعمال شاشة التلفزيون: كما نعلم أن التلفزيون سلاح ذو حدين، وإن كان أغلب استعماله في هذه الأيام في الشر، ولكن يمكن أن يستعمل في الخير كثيرًا، وبالأخص أن كثيرًا من الناس يستقبلون القنوات الأجنبية لأنهم لا يجدون بديلًا جيدًا عنها، فإذا وجدوا بديلًا عنها لما تطرقوا إليها.

ولا شك أن استعمال هذه الوسيلة يحتاج إلى صاحب علمٍ وورعٍ وذكاءٍ في كيفية استعمالها وفق الضوابط الشرعية، ولكن في الحكم بمنعها على العموم منع لكثير من الفوائد، وحرمان لوصول الخير إلى كثير من أفراد الأمة، ومرةً أخرى أكرّر أن هذا الحكم ليس على إطلاقه بل وفق ضوابط وشروط معتبرة عند المحققين من علماء هذه الأمة.

ويمكن استعمالها في المجال الدعوي من نواحي كثيرة، منها: نشر الدروس، والمحاضرات، وأمثالها، والأناشيد، وكذا المناسب شرعًا من التمثيل، والصور الإلكترونية، ونشر الصور الحية لمواسم الحج وموسم رمضان، وكذلك نشر الصلوات الخمس وصلاة وخطبة الجمعة من الحرمين, وغيرها كثير مما يكون أثرها واضحًا على المشاهد.

ومن القواعد الفقهية: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة». والأدلة عليها من الكتاب والسنة كثيرة، فعن أم كُلثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ, أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ, وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الحَرْبُ, وَالإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ, وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ المَرْأَةِ زَوْجَهَا»(استعمال الإذاعة المسموعة:

إن استعمال الإذاعة المسموعة أيضًا من الوسائل الحديثة, ولكنها أقدم مقارنةً بالإنترنت والتلفزيون، ولكن مما لاشك فيه أن التطور والتقنية ما زالت مستمرةً فيه، فيمكن أن نستفيد منه في الدعوة بإقامة محطات الإذاعة الخاصة للدعوة، أو تستفاد من الإذاعات الأخرى التي تهيئ الفرصة لاستغلالها في الدعوة. والحمد لله كثير من المشايخ بدءوا يستعملون هذه الوسيلة في المجال الدعوي، حيث تنشر لهم دروس ومحاضرات وكلمات توجيهية وغيرها من المشاركات البناءة التي تفيد الأمة في دينها ودنياها، ومن المعلوم أنه يوجد أقطار متعددة من العالم الإسلامي لا يوجد فيها ولو إذاعة محلية.

n    النشرات, والمطويات, واللوحات، والبطاقات وأمثالها:

هذه الوسائل من الأدوات ذات التأثير البين على مستويات متعددة، وتستميل عقول الفئة المثقفة وغير المثقفة، ويمكن الإبداع والتجديد في تطويرها وتنويعها، ووصولها إلى أقاصي الدنيا، بأساليب متنوعة ولغات متعددة، فتدخل كل بيت وتبقى عند كل فرد سهلة الحمل.

ما ذكرنا هي بعض الوسائل المستجدة في الساحة التي يمكن استخدامها في المجال الدعوي، لكي يعم النفع وينشر الخير، وتثبت الحجة، وتكون كلمة الله هي العليا, والله عزيز حكيم.

وأحسب أن هذه الوسائل والأساليب وأمثالها إذا طورت واستخدمت بأنواع الاستخدامات أنها من التجديد الجزئي في وسائل الدعوة، فيعم فيها النفع والخير، ويظهر أثرها الإيجابي، فيكون صاحبها من المجددين فيها.

وبعد: فما سبق هو إلماحة لشيء من وسائل التجديد في الدعوة ووسائلها وأساليبها، ولعلي ألمح هنا إلى بعض المقترحات في مجال التجديد بعامة في مجالات متعددة:

1- إنشاء مراكز بحوث ودراسات متعددة الجوانب تعطي دراسات، ومن ثم خلاصات لما تحتاجه الدعوة والمسلمون بعامة، والبشرية أجمع، هذه الخلاصات تفيد اختصار الجهود والوقت.

2- إنشاء مجامع علمية متخصصة ذات مستوى متعدد النفع، يكون من مهامها: تلخيص العلوم، وتشجيع الإبداع، ونشر البحوث الشرعية المتميزة، ووضع جوائز كبيرة المعنى، كجائزة الملك فيصل، وجائزة الأمير نايف للسنة النبوية، وغيرها.

3- تطوير المجامع الفقهية لتعمل باستمرار لبحث النوازل المعاصرة سياسية - اقتصادية - اجتماعية- فضلًا عن العقدية والفقهية بعامة، حتى لا نترك المجال للاجتهادات الفردية المستعجلة.

4- الإبداع في استخدام التقنية لخدمة العلوم الشرعية والاجتماعية.

5- تربية عدد من طلاب العلم النابهين المبدعين الذين يُرجى نفعهم على مستوى الأمة بكاملها.

6- تشجيع الإبداع في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، سواء في تطوير بعض الوسائل، أو في إيجاد مجالات لحل المشكلات الصغرى على مستوى الأفراد، والكبرى على مستوى المجتمعات.

o7 8o


([2]) المرجع السابق، (ص: 452-460).

([4]) صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب: إثم من عاهد ثم غدر، برقم: (3182)، (ص:530)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية، برقم: (1785)، (ص: 796).

([6]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، (11/192).

([8]) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، برقم: (4897)، (ص: 1181).

([10]) شرح صحيح مسلم للنووي، (17/ 164).

([12]) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الثالث، (5/ 214).

([14]) عنوان الموقع: www.Alssunnah.com - www. Alssunnah.net .

([15]) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، برقم: (2605)، (ص: 1137).



بحث عن بحث