الوقفة الثامنة

صفات المجدد

ليس هناك ضابط شرعي دقيق لتحديد أوصاف المجدد، وللجزم بأن فلانًا من المجددين، ولكن العلماء تكلموا عن بعض الأوصاف التي لا بد من اتصاف المجدد بها، وذكروها في كتبهم، ولذلك نرى خلافًا كثيرًا في تعداد المجددين وتحديدهم؛ لأن سبيلَ ذلك الظنُّ والاستقراءُ، والظن قد يخطئ وقد يصيب، وقابل للجدل والنقاش، فلذا لا مجال للادعاء بأن شخصًا بذاته هو المقصود بالحديث؛ وإن كان قد يستأنس بأوصاف حميدة، وأعمال عظيمة، وجهود طيبة بأن فلانًا من المجددين.

يقول الشيخ شمس الحق العظيم آبادي: «وَلَا يُعْلَم ذَلِكَ المُجَدِّد إِلَّا بِغَلَبَةِ الظَّنّ مِمَّنْ عَاصَرَهُ مِن العُلَمَاء بِقَرَائِن أَحْوَاله وَالِانْتِفَاع بِعِلمِهِ؛ إِذ المُجَدِّد لِلدِّينِ لَا بُدّ أَنْ يَكُون عَالِمًا بِالعُلُومِ الدِّينِيَّة الظَّاهِرَة وَالبَاطِنَة، ناصِرًا لِلسُّنَّةِ, قَامِعًا لِلبِدْعَةِ, وَأَنْ يَعُمّ عِلمه أَهْل زَمَانه, وَإِنَّمَا كَانَ التَّجْدِيد عَلَى رَأْس كُلّ مِائَة سُنَّة لِانْخِرَامِ العُلَمَاء فِيهِ غَالِبًا, وَانْدِرَاس السُّنَن، وَظُهُور البِدَع, فَيُحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى تَجْدِيد الدِّين, فَيَأْتِي الله تَعَالَى مِن الخَلق بِعِوَضٍ مِن السَّلَف إِمَّا وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا»(وفيما يلي ذكر لبعض صفات المجدد وشروطه:

صفات المجدد:

إن الصفات والضوابط التي ذكرها العلماء على قسمين؛ منها ما يرجع إلى المواهب والصفات الذاتية، ومنها ما يرجع إلى الأعمال التي يقوم بها في حياته، ومدى الانتفاع به, وآثاره التي تركها في عصره.

فمن الصفات الذاتية: أن يكون ذا مواهب كثيرة، وسجايا متعددة، ومن ذلك أن تكون له ملكات عقلية، وقدرات فكرية، وأن يكون ذا قدم راسخ في العلوم، وله باع طويل فيها, مع النظر الثاقب الذي يستطيع به نقدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، أو بعبارة أخرى: «أن تكون له الأهلية لقيادة الفكر في عصره».

وأن يكون المجدِّد مجتهدًا؛ لأن المشكلات التي تتولد في كل عصر لا بد لها من وضع الحلول في ضوء الشريعة.

وأن يضطلع بعمل من الأعمال التي تدخل تحت مسمى التجديد، سواءً كان ذلك في المجال الفكري؛ ببث الآراء، وإفشاء العلم بالتدريس والتأليف، أو في المجال العملي بإصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم.

وأن تكون جهوده الإصلاحية ذات تأثير بين في اتجاهات الفكر والعلم وفي حياة الناس.

ومن المعايير لمعرفة تأثير المجدد: ما يتركه من خلفه من أصحاب وتلاميذ وكتب ومصنفات، أو بعبارة أخرى أن يتكون في حياة المجدد ومن بعده اتجاه علمي وعملي متميز([3]).

قال المناوي واصفًا المجدِّد: «قائمًا بالحجة، ناصرًا للسنة، له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق النظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان»، وقال أيضًا: «وذلك لأن الله سبحانه لما جعل المصطفى خاتمة الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد ومعرفة أحكام الدين لازمةً إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانها، بل لا بد من طريق وافٍ بشأنها اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قرم من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث إجراءً لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم»(

 

وَهُوَ عَلَى حَيَـاته بَيْن الفِئَة
وَيَنْصُـر السُّنَّـة فِـي كَلَامـه
وَأَنْ يَعُـمّ عِلمـه أَهْـل الزَّمَن
مِنْ أَهْل بَيْت المُصْطَفَى وَقَدْ قَوِي
قَدْ نَطَقَ الحَدِيث وَالجُمْــهُور

  • وبالمناسبة فإنه لم يدَّعِ فرد ولا جماعة من المسلمين على مر العصور أنهم هم المجدِّدون للمائة الفلانية، وإنما كان المسلمون وعلماؤهم يتوسمون في فلان أنه المجدّد للمائة الفلانية، لِـمَا يجدون من أعماله المؤَثِّرة في تصحيح ما اعوجّ من حياة المسلمين، ونشر السنة، وقمع البدعة، ورجا الحافظ السيوطي أن يكون هو مجدّد المائة التاسعة، ولم يجزم.

إذن: فأقوال المجدّد وأفعاله في النصح والتغيير والاهتمام بأمور المسلمين، التي يظهر أثرها الواضح في حياة المسلمين؛ هي التي تجعل المسلمين يغلّبون الظن بأنَّ فلانًا، أو تلك الجماعة هي المجدّدة للمائة الفلانية(ومما ذكره أهل العلم من الأوصاف: أن المجتهد لا يتهجم على من سبقه من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أصولهم التي أصّلوها، وفتاواهم التي أفتوا بها، بل يكون حريصًا على اتباع سنن رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، ويسترشد بهدي من جاء بعده من الصحابة والتابعين ومن السلف الصالحين، يقول عمر بن عبد العزيز: «سنّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وولاة الأمر بعده سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنّوا اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاّه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرًا»(ومن أوصافه: أنه يسير على منهج واضح؛ منهج الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من العلماء الربانيين، ويستنير بالأصول التي أصّلوها؛ كعلم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم التفسير وغيرها.

  • كما أن المجدد ينبغي أن يتصور أنّ له من التأثير الممتد زمانًا ومكانًا ما يجعله حيًا في الأجيال التابعة بعلمه وعمله، وإن كانت حياته الدنيوية قد انتهت، فنرى أن ما تميّز به عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى هو أعمال إيجابية في مجال العلم والتطبيق، فمثلًا: تميّزت ولايته بالعدل الذي يلفت النظر، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، لاسيما في الأمور المالية العامة، وإلغاء الامتيازات الأسرية الحاكمة التي بدأ بها بنو أمية، فسوّى بين الناس جميعًا في الحقوق، فبدأ بنفسه، ثم بزوجته، ثم بذويه، وهكذا حتى عمّ العدل، وانتشر الغنى بين جميع فئات المجتمع، وكذلك أعماله الحسنة، وجهوده القيِّمة في تدوين السنة وجمعها وتدوين علومها.
  • وهكذا نرى أن أبرز من اشتهروا بالتجديد، ووصفهم المسـلمون بأنهم مجـدّدون؛ أنهم لم يدَّعوا ولم يجزموا يومًا ما أنهم مجددون لزمانهم، كما أنهم سلكوا منهجًا واضحًا.. منهج الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من السلف الصالحين، ولم يتّهموا السلف بما يُنقص من شأنهم وقدرهم في الأمة، بل قدروهم بما يستحقون, وأنزلوهم على منازلهم، وكذلك لم يغيّروا الأصول العلمية الثابتة المتفق عليها في الأمة من أصول الحديث والفقه والتفسير وغيرها، بالإضافة إلى شهرتهم بالعلم الواسع بالشريعة الإسلامية في شتى علومها وفنونها، والاجتهاد والورع، وبعد النظر والجرأة في نشر السنة وقمع البدعة.

ومما سبق لعلّنا نستنتج أن أهم صفات المجدِّد الإجمالية ما يلي:

1- أن يكون ذا علم شرعي شمولي، أو مختصصًا في جانب منه؛ كالتخصص في التفسير، أو الحديث، أو الفقه أو غيرها، ويبرز في ذلك.

2- أن يظهر أثر علمه على من تتلمذ عليه، وعلى عامة الناس، وعلى من بعده من خلال تلاميذه، أو وصاياه، أو تأليفه، ونحو ذلك.

3- أن يكون التمسك بالعبادات والأخلاق والسلوك ظاهرًا عليه في جميع شؤون حياته، ويُشهد له بذلك.

4- أن يكون منهجه في حياته العلمية والعملية والدعوية منهجًا واضحًا مبنيًا على الكتاب والسنة متبعًا لا مبتدعًا.

o7 8o


([2]) ينظر: مفهوم تجديد الدين، للشيخ بسطامي محمد سعيد، (ص: 32-34).

([4]) فيض القدير للمناوي، (1/10).

([6]) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، (1/ 173).



بحث عن بحث