سد الذرائع والوسائل المؤدية إلى المفسدة

 

      ما من نص إلا وهو موافق للعقل:

كما ذكرنا فيما سبق أن الشريعة جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد مع بيان الأدلة من الكتاب والسنة، فليعلم إن أصولها لا تخالف القياس الصحيح أيضاً؛ لأنها دين الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾  مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [سورة الروم:30-31].

قال ابن القيم: قال شيخنا: وما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة، قال: وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا، كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثير منه على أفاضل العلماء فضلاً عمن هو دونهم(1)

وقال: ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجوداً وعدمًا، كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودًا وعدمًا، فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل(2)

 

لأنه دين رب العالمين الذي ارتضاه للبشرية جمعاء، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة المائدة:3], وقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ [سورة آل عمران:19]. وقال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [سورة آل عمران:85], وأنكر على من يرضى بغير هذا الدين، فقال تعالى: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [سورة آل عمران: 83], فلا سبيل إلى التناقض والخلاف فيه؛ كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء:82].

 

وبناءً على ذلك فنجتهد بالعمل في الأدلة الشرعية مع ما يقتضي العقل القياس عليه من وسائل الدعوة وغيرها، وهذا أصل مفيد إذا أعمل، وبخاصة في الجديد من الوسائل، أو المواقف، والأحداث التي تتطلب رؤية للعمل الدعوي، ومنهاجًا يسير عليه، ومع هذا فليعلم أن المقصود بالقياس: القياس الصحيح الذي يستطيع إعماله المجتهد من العلماء والدعاة، أصحاب البصيرة والتأمل والنظر.

 

وفي الختام: هذه بعض المبادئ الأساسية في هذه القاعدة العظيمة التي تعد نبراسًا لسالك الطريق, ووقفات مشرقة في رحاب هذا الحديث الشريف فهمًا ودراسةً واستنباطاً للأحكام القيمة والدروس النافعة لكل مسلمٍ، ولكل مستقيمٍ على هذا الدين، ولكل من يريد رفعة درجاته وتكفير سيئاته، ولكل داعيةٍ يريد سلوك صراط الله تعالى, ويدعو الناس إليه على بينة وبصيرة من أمره، مستنيرًا بقوله تعالى: ﴿قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [سورة يوسف: 108].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الأول)، 2/39-40.

(2) إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الأول)، 2/22.



بحث عن بحث