بعض القواعد الفقهية في باب جلب المصالح ودرء المفاسد

 

القاعدة الثانية: دفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما:

إن الإنسان قد يتعرض في حياته لحوادث متفرقة، وأحياناً لمواقف مضادة، وقد يضطر للإقدام على الأضرار، فإذا حصل له هذا الموقف فالشريعة تدله إلى فعل أخف الضررين، يقول ابن رجب رحمه الله: «إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون ضرورة، وجب تقديم أخفهما مفسدةً وأقلهما ضررًا؛ لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا تباح«(1)

وقال ابن القيم رحمه الله: «إن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه، بقّاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به«

 

والأدلة عليها من الكتاب والسنة كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ سْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّـهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [سورة البقرة: 217].

يقول ابن كثير: أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه ــ وأنتم أهله ــ أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم(2)

وقوله سبحانه في قصة الخضر وموسى عليهما السلام: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴿٧٩﴾ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴿٨٠﴾ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا﴾ [سورة الكهف:79-81].

فدفع مفسدة غصب الملك السفنَ بمفسدة أخف، وهي خرق السفينة، واحتمل مفسدة قتل الولد ليدفع مفسدة إرهاق والديه طغيانا وكفرا التي هي أعظم وأشد من قتله.

 

يقول القرطبي: «في هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه«(3)

وتستعمل نفس القاعدة في تغيير المنكرات؛ حيث شرع النبي ﷺ إنكار المنكر على أمته ليحصل به المعروف، فإن أدّى الإنكار إلى ما هو أشر منه فإنه لا يسوغ إنكاره، يقول ابن القيم رحمه الله: فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشّاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه ونوّر ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرّم الله الخمر لأنها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم(4)

 

فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك ــ مع قدرته عليه ــ خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر(5)

وكذلك من الفوائد المستخرجة من قصة صلح الحديبية أن النبي ﷺ قبل من الكفار بعض الشروط التي فيها ــ بالظاهر ــ نوع من الإهانة للمسلمين، وبخس لبعض حقوقهم؛ دفعاً لمفاسد كبرى منها. ولذلك قيل: «إن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه؛ ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما«(6)

ولهذا نهى النبي ﷺ عن الخروج على الأمراء؛ لأن المفسدة أعظم من المصلحة الحاصلة؛ فعن أم سلمة زوج النبي ﷺ عن النبي ﷺ أنه قال: يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ, فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ, فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ, وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ, وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰـهِ! أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا, مَا صَلَّوْا(7)

 

قال ابن القيم معلقًا على هذا الحديث: إن النبي ﷺ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف كما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر, ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه؛ ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء(8)

فنخلص إلى القول مما سبق أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدّم أرجحهما، ويدفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القواعد لابن رجب، القاعدة: (112).

(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/371.)

(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، (المجلد السادس) 11/38.

(4) إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الثاني)، 3/12-13.بتصرف يسير.

(5) المرجع السابق، 3/12.)

(6) زاد المعاد لابن القيم، 3/306.

(7) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، برقم: (1854)، ص: 832-833.

(8) إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الثاني)، 3/12. بتصرف يسير.



بحث عن بحث