بعض القواعد الفقهية في باب جلب المصالح ودرء المفاسد

 

من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل أحكام الشريعة تدور حول مصالح العباد في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً؛ وتحث على رعاية المصالح بمراتبها الثلاث؛ الضروريات، والحاجيات، والتحسينات.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: «وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده، وجدتها لا  تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدّم أهمّها وأجلّها وإن فاتت أدناهما؛ وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطّل أعظمها فسادًا باحتمال أدناها، وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائع دينه دالة عليه، شاهدة له بكمال علمه وحكمته، ولطفه بعباده، وإحسانه إليهم«(1)

وليعلم ــ كما ذكر الشاطبي :: أن المصالح والمفاسد ضربان:

أحدهما: ما به صلاح العالم أو فساده؛ كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد.

والثاني: ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب.

فإن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرًا كليًا ضروريًا كانت الطاعة لاحقةً بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج إلا أمرًا جزئيًا فالطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر(2)

القاعدة الأولى: تحصيل أعلى المصلحتين وإن فاتت أدناهما:

قال ابن القيم رحمه الله: «إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قُدِّم أكملها وأهمها وأشدها طلبًا للشارع«(3)

ومما يشهد له ويقويه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان«(4)

 

فقد دل الحديث على أن المصالح التي أتى بها هذا الدين متفاوتة في العلو والرتبة، فإذا كان أعلاها متمثلاً في شهادة التوحيد، وأدناها ممثلاً بإماطة الأذى عن الطريق؛ فإن ما بين هذين الطرفين من المصالح مندرج في العلو والنزول بينهما حسب مدى القرب والبعد إلى كل منهما(5)

قال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [سورة: 216].

 

فبين أن الجهاد الذي أمروا به وإن كان مكروهاً للنفوس شاقًا عليها فمصلحته راجحة, وهو خير لهم وأحمد عاقبةً وأعظم فائدةً من التقاعد عنه، وإيثار البقاء والراحة، فالشر الذي فيه مغمور بالنسبة إلى ما تضمنه من الخير, وهكذا كل منهي عنه فهو راجح المصلحة وإن كان محبوبًا للنفوس موافقًا للهوى فمضرته ومفسدته أعظم مما فيه من المنفعة، وتلك المنفعة واللذة مغمورة مستهلكة في جنب مضرته؛ كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [سورة البقرة: 219].

 

فالمصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمل مشقةَ الصبر ساعةً قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة(6)

وبعد هذا التقعيد الرائع يمكن لنا أن نضرب بعض الأمثلة على تطبيق هذه القاعدة في باب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلكم

عندما يكون أمام الداعية مشروعان عظيم نفعهما، مثل أن ينشئ دارًا لتحفيظ القرآن الكريم، أو ينشئ مركزًا لرعاية الأيتام، فينظر هل يمكن القيام بهما جميعًا أو لا؟ فإن أمكن فحصّل المصالح كلها،ــ والحمد لله ــ, وإن لم يمكن ينظر أيهما أعظم فائدةً، وأكثر نفعًا. ولهذا النظر والترجيح عوامل، منها: الحاجة إلى هذا أو ذاك، فأيّ الحاجتين أكثر؟ ومنها: تعدد النفع، ونحو ذلك.

ومثال آخر: أن أكون أمام عملين، أحدهما أقوم به بمفردي، مثل أن أكتب مقالاً في صحيفةٍ، أو مجلةٍ ونحوها، والعمل الآخر مع مجموعة تتعاون لتقوم على طباعة كتاب يتم توزيعه على الحجاج والمعتمرين، فهل يمكن القيام بهما جميعًا، أو أحدهما؟ فإن أمكن القيام بهما جميعًا حصّل المصالح كلها، وإن لم يمكن فينظر أيهما أعظم نفعًا، ولهذا وذلك عوامل كما سبق.

وبناءً على ذلك قبل أن يقدم الداعية على مشاريعه، فيتأمل ويستشير حتى يقوم بالمشروع الأكثر فائدةً، فيعظم الأجر، ويكثر، وينتشر النفع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم، المجلد الأول، 2/22.

(2) الموافقات للشاطبي، 2/511-512. بتصرف يسير.

(3) ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 2/ 19، بتصرف يسير.

(4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان، برقم: (9), ص: 5, ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان...، برقم: (35), ص: 38-39, واللفظ له.

(5) ينظر: القواعد الفقهية لأبي عبد الرحمن الجزائري، ص:331.

(6) ينظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم، 2/ 15، بتصرف يسير.



بحث عن بحث