الشارع لم يقصد بالتكاليف المشاق الإعنات

 

وبعد وضوح هذا الأصل المكين أعني أن الشريعة جاءت لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم، وجب البيان بأن التكاليف الشرعية وما ينتج عنها مما ظاهره مشقة أنها ليست مرادةً لذاتها، وإلا فقد رفع الله تعالى الحرج عن هذه الأمة، وقد أوضح الإمام الشاطبي رحمه الله هذا المعنى العظيم ودلل عليه بما يلي:

 

أحدها: النصوص الدالة على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة الأعراف:157]. وقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [سورة البقرة:286]. وقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [سورة البقرة: 185]. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [سورة الحج: 78].

 

وفي الحديث: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ؛ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ, واللّٰـهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللّٰـهِ فَيَنْتَقِمُ للهِ(1)

وقال النبي ﷺ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ, وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ, فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا, وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِن الدُّلجَةِ(2)

 

والثاني: ما ثبت أيضًا من مشروعية الرخص، وهو أمر مقطوع به، ومما علم من دين الأمة ضرورةً؛ كرخص القصر، والفطر، والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار؛ فإن هذا نمط يدل قطعًا على مطلق رفع الحرج والمشقة.

 

والثالث: الإجماع على عدم وقوعه وجودًا في التكليف، وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه، ولو كان واقعًا لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف، وذلك منفي عنها؛ فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير؛ كان الجمع بينهما تناقضاً واختلافًا، وهي منزهة عن ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب: إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، برقم: (6786)، ص: 1170.

(2) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر، برقم: (39)، ص: 9-10.



بحث عن بحث