الشريعة جاءت لمصالح العباد

 

فالشريعة الغراء راعت مصالح العباد في كل شيء؛ لأنها رحمة كلها وجاءت من الرحمن الرحيم، يقول ابن القيم رحمه الله: «وإذا تأملت الشريعة التي بعث الله بها رسوله حق التأمل وجدتها من أولها إلى آخرها شاهدةً بذلك ناطقةً به، ووجدت الحكمة والمصلحة والعدل والرحمة باديًا على صفحاتها، منادياً عليها، يدعو العقول والألباب إليها، وأنه لا يجوز على أحكم الحاكمين ولا يليق به أن يشرع لعباده ما يضادّها، وذلك لأن الذي شرعها علم ما في خلافها من المفاسد والقبائح والظلم والسفه الذي يتعالى عن إرادته وشرعه، وأنه لا يصلح العباد إلا عليها، ولا سعادة لهم بدونها البتة«(1)

ويظهر هذا الجانب في نواحي كثيرة، فعلى سبيل المثال، إن الله حرّم المحرمات من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولكن أباحها عند الاضطرار؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّـهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 173].

 

يقول ابن كثير: « أباح تعالى ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة«(2).

فإذا اضطر الإنسان إليها وخاف على نفسه الهلاك إن لم يتناولها أبيحت له.

وكذلك تدرأ الحدود بالشبهات؛ كما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّٰـهِ ﷺ: ادْرَءُوا الحُدُودَ عَن المسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ(3)

كما لا تقطع يد السارق في الغزو، لأنه وقت يحتاج المسلمون إلى التكاتف والمعاونة وائتلاف الكلمة فيما بينهم، وفي إقامة الحد عليه في هذا الوقت مظنة فتنة لهذا الشخص؛ فلهذا لا تقطع ؛ فعَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ(4)

 

قال الترمذي: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُم الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَرَوْنَ أَنْ يُقَامَ الحَدُّ فِي الْغَزْوِ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ بِالْعَدُوِّ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ أَرْضِ الحَرْبِ وَرَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَامَ الحَدَّ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ كَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ(5)

يقول ابن القيم: فهذا حدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا(6)

وفي رواية عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ ابْنَ أَرْطَاةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّٰـهِ ﷺ يَقُولُ: لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ، لَقَطَعْتُهَا(7)

وقد ترك النبي ﷺ بعض الأشياء مراعاة للمصلحة الراجحة، فعلى سبيل المثال هدم الكعبة وبناءها من جديد، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ رَسُولَ اللّٰـهِ ﷺ قَالَ لَهَا: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ حين بَنَوا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّٰـهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ(8) الحديث.

يقول السندي: أَيْ: لَوْلَا قُرْبُ عَهْدهمْ بِالْكُفْرِ، يُرِيد أَنَّ الْإِسْلَام لَمْ يَتَمَكَّن فِي قُلُوبهمْ، فَلَوْ هُدِمَتْ لَرُبَّمَا نَفَرُوا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَغْيِيره عَظِيمًا(9)

ويقول ابن القيم رحمه الله: لماّ فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم رسول الله ــ ﷺ ــ على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهدٍ بكفرٍ(10)

 

وكذلك أمرُ قتل عبد الله بن أُبيّ مع أنه آذى النبي ﷺ في كثير من المواقع وبالأخص في حادثة الإفك، ورجع من غزوة أحد مع ثلاثمائة من أصحابه، ومع ذلك لم يقتله النبي ﷺ لمصلحة الدعوة، وقد استأذن ابنه عبد الله في قتله فنهاه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رسُولُ اللّٰـهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىٰ عَبْدِ اللّٰـهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وَهُوَ فِي ظِلٍّ، فَقَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبي كَبْشَةَ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ اللّٰـهِ بْنُ عَبْدِ اللّٰـهِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لآتيَنَّكَ بِرَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّٰـهِ: «لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ«(11)

وغيرها من الأمثلة كثيرة، والأدلة عليها أكثر من أن تحصى على الأصابع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم، المجلد الأول، 2/23.

(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/294.

(3) جامع الترمذي، كتاب الحدود، باب: ما جاء في درء الحدود، برقم: (1424)، ص: 345 .

(4) جامع الترمذي، كتاب الحدود، باب: ما جاء أن لا يقطع الأيدي في الغزو، برقم: (1450)، ص:352 .وقال: هذا حديث غريب.

(5) نفس المرجع.

(6) إعلام الموقعين لابن القيم، المجلد الثاني، 3/13.

(7) سنن الدارمي، كتاب السير، باب في أن لا يقطع الأيدي في الغزو، برقم: (2492), ص: 2/231.

(8) صحيح البخاري ،كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها , برقم: (1583), ص: 257.

(9) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الثالث، 5/ 214.

(10) إعلام الموقعين لابن القيم المجلد الثاني، 3/12.

(11) المعجم الأوسط للطبراني، 1/177، برقم: (231)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، كتاب: علامات النبوة، باب: في عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه، (المجلد الرابع)، 9/317, وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.



بحث عن بحث