حق الجسد والنفس

 

الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله،أحمده سبحانه وأشكره، أنعم علينا بنعم لا تعد ولا تحصى، وأُصلي وأُسلم على نبينا محمد المصطفى، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنهى، والتابعين ومن تبعهم وعلى هديهم سار واهتدى.

 

 

أما بعد:

فحديثنا في هذا الدرس عن حقِّ غفل عنه بعض الناس، وتشاغل عنه آخرون، وجهله كثيرون، هذا الحق أفرط في شأنه بعض الناس وجعلوه على حساب أمور أخرى، وأهمله البعض الآخر، فلم يقوموا به، فالناس فيه بين إفراط وتفريط، فحريٌّ بالمسلم أن يتأمله، وأن يراجعه، ذلكم هو حق الجسد والنفس.

 

 

أخي المسلم!

إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفضله على سائر المخلوقات، وجعله متكونًا من جسد وروح، وكلّفه أن يلبّي حاجاتهما بما فرضه الله تعالى عليه وأوجبه واستحبه، وجعل هذه التكاليف حقوقًا لجسده وروحه عليه، سعد من قام بها وانتبه لنفسه، وشقي من أهملها ولقي الله تعالى مضيِّعًا لها.

 

ورأس هذه الحقوق وأهمها: إقامة هذا الجسد وتربيته على طاعة الله تعالى، والابتعاد عن معصيته، ومن المعلوم عند علماء الشرع وعلماء التربية والنفس: أن النفس عند أي تكليف تحتاج إلى تمرين وتهيئة وتربية، ألا ترى -أخي المسلم- أن الإسلام أمر بتمرين الصغار على الصلاة منذ بلوغهم سن السابعة، علمًا أنهم غير مكلفين في هذه السن؛ وذلك لما تحتاجه الطاعات من التربية والتمرين، فإذا ما بلغ سن التكليف سهل عليه القيام بها، والاستمرار عليها، وعدم التضايق منها.

 

ومن المعلوم أيضًا: أن للنفس رغبات وشهوات، والإسلام قد راعى هذه الرغبات والشهوات، وأمر بتلبيتها لكن حسب الضوابط الشرعية التي حددها وأقرها.

 

وعليه: فينبغي للمسلم أن يقوم بحقوق جسده وروحه وفق مرضاة ربه عز وجل، فيربيها على عمل الطاعات، واجتناب المعاصي، ويقسرها على الأخلاق الفاضلة، والسلوك الحميد، والمعاملة الحسنة، والصفات النبيلة.

 

ومن ظلمه لنفسه: أن يجعلها ترتع في شهواتها ورغباتها، دون النظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى، فيقع بذلك في التفريط ويعرض نفسه لغضب الله وعقابه.

 

ومن ظلمه لنفسه: أن يكلفها من العبادات ما لا تطيق، فيقع بذلك في الغلو والإفراط المذموم، فالإسلام دين الوسطية والاعتدال في كل شيء.

 

وقد وجه الإسلام إلى هذا الاعتدال، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، ولا زيادة ولا نقصان، قال الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة: 286]، وجاء في الحديث الصحيح: أن عبد الله بن عمرو بن العاص ب قال: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم إنِّي أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في بعض الروايات-: «ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك -أي: ضيفك- عليك حقًّا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله»([2]).

 

فنلاحظ هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد عبد الله بن عمرو إلى ما يطيقه من العبادة، وأخبره بأن عليه حقًّا لجسده.

وخير الأعمال ما دام وإن قلّ، نجد هذا التوجيه في الحديث الصحيح الآخر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»(

 

ولما سمع عن امرأة ذكر له من صلاتها الكثير قال: «مَهْ! عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا»([4]).

 

وهكذا -أخي المسلم- لابد من التوازن تجاه التعامل مع الجسد في العبادة، ويمكن تلخيص هذا التعامل: بالعمل بالفرائض والمأمورات، والبعد عن المحظورات والمحرمات، والمحافظة على شيءٍ من النوافل والمستحبات التي يكون لدى المسلم القدرة على المواظبة عليها، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وأن لا يكثر من العمل ثم يقطعه، أو يهمل العمل بالنوافل إهمالًا تامًّا، فيكون على خطر.

ومن حقوق الجسد: تمرينه على العزائم، والتطلع إلى معالي الأمور، والبُعد عن سفاسفها، فالله قد أنعم عليك بوجودك، ثم بخلقك وتقويمك أحسن تقويم، ثم بإعطائك ومنحك القدرات والأحاسيس والفهوم، فمن حق جسدك عليك توجيه هذه النعم الوجهة السليمة، واستغلال ما منحك الله سبحانه وتعالى من الحواس والقدرات نحو معالي الأمور.

ومن ذلك -أخي المسلم-: إعمال حواسك من السمع والبصر والفؤاد وغيرها فيما هو خير لك ولمجتمعك وأمتك، فاستفد من بصرك مثلًا- في قراءة كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، وفيما يستقيم به دينك، ثم فيما يخدم تخصصك العلمي -إن كنت من أهل التخصص-، أو ما ينمي ثقافتك ومعارفك.. وهكذا، يقول الله تعالى في بيان هذه النعم وأننا محاسبون ومسؤولون عنها: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].

وما قيل عن البصر يقال عن المواهب والقدرات، فإن كنت من أهل الطب -مثلًا- فَنَمِّ موهبتك، وإن كنت من أهل الصناعة فكذلك.. وهكذا، فلا يقف طموحك عند حد معين، ولا تحقرنَّ نفسك وجهدك، بل عُدَّ نفسك على ثغر من ثغور الأمة، وقد ينفع الله بك، فأخلص النية وأحسن العمل، وفقك الله تعالى.

ومن حقوق جسدك: أن تمرنه على القوة والنشاط والحيوية، وأن تجنبه الكسل والخمول والفتور، فكل جسم على ما رُبي، وتذكّر أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، كما ورد في السنة، وقديمًا قيل: العقل السليم في الجسم السليم.

ومن حقوقه عليك: التوازن في مطعمك ومشربك، واتباع القواعد الشرعية في ذلك، ومنها: أن لا تطعم إلا من المال الحلال، فالحل والحرمة لهما تأثير على الجسد في الدنيا والآخرة.

ومنها الحقوق: عدم إهمال الجسد بدون طعام أو شراب، أو الإكثار منهما بما يكسل عن الطاعة ويضعف الجسم ويسبب له الأمراض من هذه الزيادة، لاسيما وقد جاء النهي عن الإسراف، والأمر بالاعتدال في ذلك في القرآن والسنة، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا[الأعراف: 31]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه...»(

 

ومن تلك الحقوق: إشعار النفس بأن هذه النعم من الله عز وجل، واتباع الآداب والسنن الواردة فيها، فيبدأ طعامه وشرابه ببسم الله والدعاء بالبركة، ويختم في نهايته بحمد الله وشكره على ما أنعم بهذه النعم، بحسب ما ورد في النصوص النبوية.

 

ومن حقوق الجسد: العناية بمظهره ومخبره، فدين الإسلام دين الطهر والنظافة، ظاهرًا وباطنًا، فكما وجه الإسلام بتطهير القلب من الحسد والحقد والغيرة والضغينة والغل والبغض والكره، وجه كذلك بنظافته ظاهرًا، وما أبواب الطهارة (الوضوء والغسل والسواك وإزالة النجاسة وغيرها في الفقه الإسلامي) إلا دليل قاطع على العناية بنظافة الجسد وطهارته، فالمسلم طاهر نظيف ويجب أن يبقى كذلك.

 

ومن حقوق الجسد -بل ومن العناية به-: الأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض بالأشياء التي ذكرت؛ من النظافة، والعناية بالطعام والشراب والرياضة وغيرها، وكذا معالجتها عند وقوعها بما شُرع من الداوي بالأدوية المشروعة، بعد الاعتقاد الجازم والإيمان القوي بأن كل شيء يحدث على الإنسان إنما هو بقضاء الله تعالى وقدره، قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة: 51]، ومع ذلك فقد شرع لنا سبحانه عمل الأسباب، ومنها التداوي بالمشروع، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فَتَدَاوَوْا، ولا تتداووا بحرام»(

 

أخي المسلم!

بعد هذا العرض السريع لحقوق الجسد، تبين أن لجسد المؤمن حقًّا عليه، ومما يساعد على القيام بهذا الحق: أن يتعاهد المسلم نفسه بعمل برنامج يومي له يحتوي على جميع المتطلبات الشرعية والمباحة، فيقوم بما أوجبه الله عليه، مبتعدًا عما نهاه عنه، مُوزِّعًا وقته، ومنظمًا له، غير متكاسل ولا متخاذل، وهكذا المؤمن الجاد الذي يعمل بطاعة ربه، ويمتثل لشرعه سبحانه وتعالى.

أسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا ولا يكلنا إليها ولا إلى أحد من خلقه طرفة عين، إنَّه سميع مجيب، وهو المستعان.

 

([2]) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6463).

([1]) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل (6463).

([4]) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة (3349).

([1]) رواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة (3349).

([5]) رواه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة (3874).



بحث عن بحث