حقوق الطريق (2)

 

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد، أحاط علمه بالظاهر والخفي والقريب والبعيد، أحمده سبحانه وأشكره وهو الولي الحميد، وأُصلي وأُسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم الرشيد.

 

 

أما بعد:

فقد تحدثنا في الدرس السابق عن حق مهم وعام، وهو حق الطريق الذي وردت به نصوص تبينه وتوضِّحه، وذكرنا من هذه النصوص ما رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس في الطرقات!» قالوا: يا رسول الله! ما لنا بد من مجالسنا نتحدّث فيها، قال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه» قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»([2]).

 

وقد أشرنا في الدرس السابق إلى شمول التشريع الإسلامي في تنظيمه شؤون الناس وعلاقة بعضهم ببعض، في بيوتهم ومقر أعمالهم وطرقاتهم وشوارعهم، وأمكنة اجتماعاتهم، وغير ذلك، وذكرنا من حقوق الطريق الواردة في الحديث: غض البصر، وعرضنا له بشيء من التفصيل.

 

وفي هذا الدرس نواصل الحديث عن بقية حقوق الطريق الواردة في الحديث السابق:

 

الحق الثاني: كف الأذى، والأذى هنا عام يشمل كل أذى قولي أو فعلي. وكفه: تركه وعدم مقارفته.

 

ومن الأذى القولي: الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والغمز والهمز واللمز، ونحو ذلك مما يؤذي الشخص المار.

 

ومن الأذى الفعلي: النظر إلى عورات البيوت والاطلاع عليها، أو استعمال الأصوات المزعجة أو المحرّمة، وغير ذلك من الصور التي يشملها لفظ «الإيذاء»، الذي نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه، ورُتِّب عليه الوعيد الشديد، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا[الأحزاب: 58]، وقال صلى الله عليه وسلم ناهيًا عن إيذاء المسلم بغشه أو التدليس عليه: «من غَشَّ فليس مني»(

 

 

أخي المسلم!

إن الإسلام العظيم علّم المسلم أن يكون عنصرًا فاعلًا في مجتمعه، إيجابيًّا نحو الخير لإخوانه المسلمين، نافعًا لنفسه ومُعَدِّيًا نفعه للآخرين، يحب الخير للناس كما يحبه لنفسه، إلفًا مألوفًا، ودودًا رحيمًا، إذا سمع بالخير بادر إلى امتثاله والتشجيع عليه، وإذا سمع بالشر بادر إلى الكف عنه واجتنابه، والتحذير منه، فهو كالشجرة المثمرة، ففي أي مكان غرست أثمرت وأينعت وانتشر خيرها، فإن لم يكن المسلم كذلك -ولا إخاله- فلا أقل من أن يكف أذاه عن الآخرين، أيًّا كان مصدر هذا الإيذاء، سواء كان سمعه أو بصره، أو لسانه، أو يده، أو غيرها.

 

 

أيها المسلمون الكرام!

الحق الثالث من حقوق الطريق: رد السلام، وقد عرفنا في درس سابق أحكام السلام وآدابه؛ لأنه من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ومما بيّناه أن رد السلام واجب بالإجماع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86]، وأن الابتداء بالسلام سنة يؤجر فاعلها، والسلام تحية المسلمين، فهو دعاء بالسلامة والرحمة والبركة والخير.

 

فعلى من ابتلي بشيء من الجلوس في الطرقات، أن يحرص على الالتزام بأحكام السلام، واغتنام الأجر في ذلك.

 

الحق الرابع من حقوق الطريق – وهو من الحقوق المهمة -:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخص بالذكر لأن الطريق ونحوه مظنة وجود بعض المنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إسلامي عظيم، عَدَّه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، وقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة على تقرير هذا الواجب وبيان عظم ثواب القائمين عليه، والوعيد الشديد للأمة التي تتركه، فالأمر بالمعروف من أهم واجبات الدِّين، ومن دعائمه الأساسية، ومن ميزاته الظاهرة، وهو عامل من أكبر عوامل الصلاح والإصلاح في المجتمع، به يعلو الحق ويندحر الباطل، ويعز المؤمن، ويذل الفاسق، ويعمُّ الخير والأمان، وبه يُقوَّم المعوج، ويُصلح الفاسد، وبه ترتفع درجات المؤمن عند الله سبحانه، وتعلو مكانته عند الخلق.

 

ولا يتسع المقام للتفصيل فيه، فشأنه أن تُفرد له المؤلفات والمصنفات، ولكن حسبي أن أذكر بعض النصوص القرآنية والنبوية، التي تحث عليه، وتحذِّر من التفريط فيه، فتكون تذكرة للناسي، وتنبيهًا للغافل، وتعليمًا للجاهل، قال تعالى مبيّنًا أنه من أهم صفات المؤمنين والمؤمنات: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71].

 

وقال تعالى مبينًا أن من صفات المنافقين الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة: 67]، وقال تعالى موضحًا أن الفلاح مترتب على القيام به: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]، كما أن الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر تتصف بالخيرية المطلقة، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[آل عمران: 110]، والأمر بالمعروف سبب للنجاة من مصائب الدنيا وعقوبات الآخرة، قال تعالى:﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165]، وترك الأمر بالمعروف سبب للعن الله وغضبه وحلول عقابه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المائدة: 78 79].

 

هذا هو فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو عقاب تركه، أما حكمه فهو واجب من الواجبات الكفائية التي إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين، ولكن يتعين في حالات معينة، كأن لا يستطيع تغيير هذا المنكر إلا شخص أو أشخاص؛ كولي البيت في أمور بيته، ونحو ذلك.

 

واعلم -أخي المسلم- أن لهذا الواجب العظيم شروطًا وآدابًا يجب التحلِّي بها: كالنية الخالصة فيه، والأسلوب المناسب، والعلم، والصبر، والبصيرة فيما تأمر به أو تنهى عنه، والنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة عليه، وغيرها مما فصّله أهل العلم في مظانّه، فليحرص على تعلّمها من أراد الخير والنجاة، وليكن قيامه بهذا الحق على هدى وبصيرة.

 

 

أخي المسلم!

وللطريق وما في حكمه حقوق غير ما ذُكر، جاءت في نصوص أخرى، ومنها: حسن الكلام، وتشميت العاطس، وإغاثة الملهوف، وإعانة العاجز، وهداية الحيران، وإرشاد السبيل، ورد ظلم الظالم، وقد جمعها الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله:

جمعت آداب من رام الجلوس على
أفش السلام وأحسن في الكلام
في الحمل عاون ومظلومًا أعن وأغث
بالعرف مُرْ وانه عن نكر وكف أذى

الطريق من قول خير البرية إنسانا
وشمت عاطسًا وسلامًا رد إحسانا
لهفان واهد سبيلًا واهد حيرانا
وغض طرفًا وأكثر ذكر مولانا

أخي المسلم!

لتكن لنا مع هذه الحقوق وقفات تأمُّل ومحاسبة، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى، وليسأله الثبات على الخير، ومن وجد تقصيرًا فليرجع على نفسه باللوم، وليعزم على تدارك حاله.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص والسداد في الأقوال والأعمال، وأن يوفقنا إلى أحسن الأخلاق والخصال، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.


([2]) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من حمل علينا السلاح (102).

([1]) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من حمل علينا السلاح (102).



بحث عن بحث