حقوق الطريق (1)

 

الحمد لله الذي شرع لنا أحسن الشرائع وأحكمها، وأمرنا بخير الأعمال وأفضلها، وزجرنا ونهانا عمَّا يضر بديننا ودنيانا، وأُصلي وأُسلِّم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، الذي ما من خير إلا دلَّ الأمة عليه، وما من شر إلا حذَّرها منه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

 

أما بعد:

فقد عشنا في الدرس السابق سماحة الإسلام؛ إذْ وضع لغير المسلمين حقوقًا ينبغي للمؤمن أن يفقهها وأن يتعامل بها.

 

وفي هذا الدرس نقف مع حق مهم، وهو حق الطريق، وذلك لأن الإنسان في هذه الحياة ينتقل من مكان إلى آخر، ليقرّ في بيته ويخرج منه ويؤوب إليه، والناس في ذهابهم وإيابهم، وفي طرقهم وشوارعهم، وفي منتزهاتهم وأماكنهم العامة، وما في حكمها، لهم حقوق على بعضهم البعض، أبانها الإسلام وأوضحها ولم يُغفلها، فما أحسنه من تشريع! وما أحكمه من نظام!

 

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق الطريق وما في حكمه، روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس في الطرقات!» قالوا: يا رسول الله! ما لنا بُدٌّ من مجالسنا نتحدّث فيها، قال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه» قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»([2]).

 

وفي رواية لمسلم: عن زيد بن سهل رضي الله عنه قال: كنَّا قعودًا بالأفنية نتحدّث فيها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا، فقال: «ما لكم ولمجالس الصعدات؟ اجتنبوا مجالس الصعدات» فقلنا: إنا قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدّث، قال: «أما لا، فأدُّوا حقها: غض البصر، ورد السلام، وحسن الكلام»(

 

هكذا -أخي المسلم- ينظر الإسلام إلى الطريق، فالطريق مكان للمارة ذاهبين آيبين، فليس مقرًّا للجلوس، والجلوس فيه قد ينتج عنه آثار سيئة؛ من إطلاق البصر في المحرمات، وإزعاج المارة من الناس، والاطلاع على عورات البيوت، والكلام في أعراض الناس، وضياع الأوقات بما لا فائدة فيه، وغيرها من الأشياء المنكرة.

 

لكن الصحابة ي أبانوا عن هدف جلوسهم فقالوا: «إنا قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدّث»، ولكن مع هذا الغرض النبيل لابد من مراعاة حق الطريق؛ إذْ إن الهدف النبيل لا يبرر أن تكون الوسيلة غير سليمة، فالوسائل لها أحكام الغايات، هذا هو الأصل في الطريق، لكن إذا جلس لغرض سليم فعليه مراعاة حقوق الطريق، ومن أهمها:

 

1- غض البصر، والمقصود: غضه وكفه عن النظر إلى المحرمات، وما نهى الله عنه من العورات.

 

 

أخي المسلم!

البصر نعمة من نعم الله تعالى التي امتن الله سبحانه بها على عباده، فبه ينظرون ويقرؤون، وبه يبصرون طريقهم، ويتعرفون على الأشياء، وبه يتمتعون بالنظر إلى الأشياء الجميلة التي خلقها الله تعالى مما يباح النظر إليه، وبه يستطيعون أن يقوموا بكثير من العبادات التي عليها يؤجرون، فما قراءة القرآن، والاطلاع على العلم النافع، والتفكر فيما يرون من مخلوقات، إلا عبادات وطاعات وسيلتها البصر، فلا يعرف قيمة هذه النعمة العظيمة إلا من فقدها، ولذلك جازى الله سبحانه فاقدها -إذا صبر ورضي بما قدر الله عليه- بالجنة، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة»([4]).

 

ولذلك ينبغي شكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة، بأن يستعملها العبد في طاعة الله تعالى، وما يوصل إلى جنته ورضاه، وأن يحذر أن تكون شاهدة عليه يوم القيامة؛ فهو سيسأل عنها يوم يلقى ربه عز وجل، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36].

 

ومن شكر الله تعالى على هذه النعمة: أن يحذر من إطلاقها في المحرمات، قال الله تعالى آمرًا المؤمنين بغض أبصارهم: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[النور: 30].

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم وصححه: «النظرة سهم من سهام إبليس، فمن تركها من خوف الله؛ أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه»(

 

وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطورة هذا الأمر - أعني أنه سهم مسموم من سهام إبليس- وحين يقع من المسلم وقوعًا غير إرادي، فعليه أن يصرف بصره في الحال، روى أبو داود عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة»([6]).

 

وروى مسلم رحمه الله عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري»(

 

وقد جاء الوعيد الشديد لمن أطلق بصره في المحرمات، وقد روي: «من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية صب في عينيه الآنك»(

وكما جاء النهي للرجال فالنهي للنساء أيضًا، قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور: 31] .

 

وهذا كله ليبقى المجتمع المسلم بأفراده رجالًا ونساءً مجتمعًا نظيفًا، طاهرًا نقيًّا، حريصًا على إغلاق أبواب الشيطان، فالنظر هو الباب الأكبر لكثير من الشرور، فإذا أُوصد هذا الباب أورث خيرًا كثيرًا، وإذا فتح قاد إلى شر مستطير، قال الإمام ابن القيم :: «والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد، ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.

 

ثم قال :: «ومن آفات النظر: أنه يورِّث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه، ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب؛ أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه».

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية :، مبينًا ضرر إطلاق البصر في المحرمات على عبودية العبد لربه: «النظر يؤكد المحبة، فيكون علاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب إليه، ثم غرامًا للزومه للقلب، كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقًا، إلى أن يصير تتيُّمًا، والمتيّم: المعبّد، وتيم الله: عبد الله، فيبقى القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون أخًا، بل ولا خادمًا، وهذا إنما يُبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله».

 

 

أخي المسلم!

لعل في هذا البيان الجليّ لمفاسد إطلاق البصر فيما حرَّم الله عزَّ وجل ما يوضح لنا الحكمة من سدِّ الإسلام لمداخل الشيطان التي يدخل بها إلى العبد؛ ليفسد عليه خُلُقه، وليُلَبِّس عليه، وليزين له معصية ربه.

 

فحريٌّ بالمسلم الصادق أن يربِّي نفسه، ويوطِّن قلبه وجوارحه وحواسه على طاعة الله تعالى، وطلب مرضاته.

 

أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا، وأن يحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين، مقيمين ومسافرين، وأن يجعل جوارحنا شاهدة لنا لا شاهدة علينا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ويكفِّر عنَّا سيئاتنا، ويرفع درجاتنا، ووالدينا والمسلمين أجمعين، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.

 

وللحديث عن حقوق الطريق بقية إن شاء الله تعالى.


([2]) رواه مسلم في كتاب السلام، باب من حق الجلوس على الطريق (2161).

([1]) رواه مسلم في كتاب السلام، باب من حق الجلوس على الطريق (2161). 

([4]) رواه الحاكم في المستدرك (4/314)، والطبراني في الكبير (10/214) برقم (10362).

([1]) رواه الحاكم في المستدرك (4/314)، والطبراني في الكبير (10/214) برقم (10362).

([6]) رواه مسلم في كتاب الأدب، باب نظرة الفجأة (2159).

([1]) رواه مسلم في كتاب الأدب، باب نظرة الفجأة (2159).

([7]) انظر: نصب الراية (4/240).



بحث عن بحث