حقوق الجار



الحمد لله البَرِّ الرحيم، الذي ألّف بين قلوب المؤمنين، وجعلهم إخوة متحابين، وأوصى بالجيران الأقربين والأبعدين، وأصلي وأسلِّم على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

 

أما بعد:

فقد عشنا في دروس سابقة مع حقوق المسلم على أخيه المسلم، وعرفنا تلك الحقوق بشيء من البيان والتفصيل، وبينا أن منطلق تلك الحقوق ما أكَّد عليه الإسلام من وجوب التآخي بين المسلمين، وأن علاقات بعضهم ببعض قائمة على الأخوة والمحبة والمودة والأُلفة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]، وقال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة: 71]، وقال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أنس بن مالك ا: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»([2]).

 

وقد تمثل الرعيل الأول من أهل القرون المفضلة هذا المعنى العظيم، حتى وصلوا إلى درجة عالية في القيام بهذه الحقوق، حيث قدموا حقوق غيرهم على أنفسهم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[الحشر: 9].

وهكذا يريد منّا ديننا الحنيف، وهكذا يكون القيام بهذه الحقوق، وهكذا يكون المؤمن الصادق الذي آمن بقوله وفعله، واتبع هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم

أخي المسلم!

وهناك نوع من الناس، لهم صفة مخصوصة، خصّها الشارع الحكيم بمزيد حقوق، ورعاية وعناية، اهتم بها القليل من الناس، وأغفلها -أو تشاغل عنها- كثيرون.

هذه الفئة هم الجيران، والجار: هو من قرب داره من دارك، وحدّه بعضهم بأربعين بيتًا، وحدّه آخرون بالعرف، فما كان جارًا في عرف الناس تحقق فيه هذا الوصف.

وللجار -أخي المسلم- حق خاص، وميزة خاصة، فالصلة بالجوار من أقوى الروابط، والإحسان إليه من أفضل أنواع الإحسان، والقيام بحقه من أعظم أبواب القُرَب.

ولقد جاءت الوصية بالجار في مواضع من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء: 36]، فذكر الله سبحانه وتعالى أنواع الجيران الذين أوصى بهم، وهم: الجار الذي قرب من جاره مكانًا أو دينًا أو نسبًا، والجار الذي بُعد مكانًا أو نسبًا أو دينًا.

ولعظم حق الجار جعله الرسول صلى الله عليه وسلم كالقريب الذي يرث، لولا أنه لا يستحق الإرث، فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر ب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»(

 

 

ويمكن تلخيص حقوق الجيران فيما يلي:

الحق الأول: الكف عن أذيته بالقول أو الفعل، وعدم الإساءة إليه بأي نوع من أنواع الإساءة، فذاك الذي يُسمع جاره بعض الكلمات غير اللائقة، أو الذي يزعج جاره برفع صوته أو صوت أبنائه وبناته، أو صوت المذياع أو التلفاز -ويزداد سوءًا إذا كانت تلك الأصوات منكرة-، وذاك الذي يطلع على عورات جاره من الأبواب أو النوافذ، أو يقف باستمرار أمام بابه لينظر إلى من يدخل ويخرج من محارمه، أو يوقف سيارته أمام باب جاره، أو يخرج المياه من بيته لتتسرب إلى جيرانه، أو يضع القمامة أمام باب جاره، أو يكثر من الجلوس عند عتبة بابه، أو يترك أولاده يعبثون أمام أبواب الجيران؛ كل هذه الصور ونحوها من إيذاء الجار الذي شدّد الإسلام في النهي عنه، وجعل اجتناب ذلك رأس الحقوق الواجبة له.

 

 

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره»([4])، وروى الشيخان أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» فقيل: من هو يا رسول الله؟ فقال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»(  أي: أذيته ومساوئه.

 

وروى أصحاب السنن بسند حسَّنه الترمذي: أن امرأة قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال صلى الله عليه وسلم: «هي في النار»([6]).

 

ومن أشد الأذى للجار: أن يتعرض لمحارمه بنظرة شهوانية، وإغواء شيطاني، فمثل هذا تضاعف عقوبته، حيث عدّه الرسول صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، فقد سأله عبد الله بن مسعود: أي الذنب أعظم؟ فذكر منها: «أن تزاني حليلة جارك»(

وكانت عقوبته مضاعفة وعذابه أشد؛ لأن الجار في الغالب يأمن جاره، وينتظر منه الإحسان، ولا يظن به الخيانة والتعدِّي على حرماته.

 

ومن حقوق الجار: إكرامه والإِحسان إليه بكل ما يستطيع من صور الإحسان، كأن ينصره إذا استنصر به، ويعينه إذا استعان به، ويعوده إذا مرض، ويهنئه إذا فرح، ويساعده إذا احتاج، ويقرضه إذا طلب الإقراض، ويعزيه إذا أصيب بمصيبة، ويبدأه بالسلام، ويُلين له الكلام، ويرعى جانبه، ويحمي حماه، ويصفح عن زلاته، وينصحه ويرشده إذا رأى حاجة لذلك، ويوجهه إذا احتاج إلى توجيه، روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»، وفي رواية أخرى: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»([8]).

 

ومن حقوق الجار: إسداء المعروف والخير إليه، والصدقة عليه إن كان محتاجًا لذلك، أو الإهداء إليه من طعامه وشرابه، أو بأي أمر آخر يقرب النفوس ويصفيها، والشفاعة له بما يملك من جاه أو منصب بما لا يضر بالآخرين، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة»( وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ا: «يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك»([10]).

 

ومما يشار إليه هنا: أنه كلما قرب الجار مكانًا أو نسبًا أو دينًا؛ زاد حقه وارتفع، روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابًا»(

 

أخي المسلم!

قد يبتلى الإنسان بجار سوء، يصله منه أذية قولية أو فعلية، وحينئذٍ ينبغي له أن يصبر على أذى جاره، وأن لا يرد الأذية بأخرى، فإن في الصبر على ذلك أجرًا عظيمًا، وطريقًا إلى تخليصه من أذيته، وعليه أن ينصحه ويرشده إلى أذيته تلك.

 

حريٌّ بنا أن يتعاهد كل منا نفسه، وأن يرجع إليها، ويسأل نفسه: هل قام بحقوق جاره؟ هل كفّ عنه الأذى؟ هل تعاهده بالبر والصلة وصنائع المعروف؛ فأطعمه من طعامه، وأذاقه من شرابه؟ هل أهدى إليه ما تُسَلُّ به سخيمة النفوس؟ إلى غير ذلك من أنواع الإحسان إلى الجار.

 

أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يَصِلُون ما أمر الله به أن يُوصَل، وأن يغفر زللنا، وأن يعافينا ويعفو عنا، وأن يعتق رقابنا ورقاب والدينا من النار. إنه سميع مجيب، وهو المستعان.


([2]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار (6014)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب الوصية بالجار (2624).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الوصاة بالجار (6014)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب الوصية بالجار (2624).

([4]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه (6016)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار (46).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب إثم من لم يأمن جاره بوائقه (6016)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم إيذاء الجار (46).

([6]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (6001)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب (86).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (6001)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب (86).

([8]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب لا تحقرن جارةٌ لجارتها (6017) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة (1030).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب لا تحقرن جارةٌ لجارتها (6017) ، ومسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة (1030).

([10]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب حق الجوار في قُرب الأبواب (6020).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب حق الجوار في قُرب الأبواب (6020).



بحث عن بحث