حقوق المسلم (4)



الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده سبحانه على هدايته وفضله، وأشكره على نعمه وآلائه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد أكرم أنبيائه، ومصطفاه من خلقه، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على نهجه واهتدى بهديه.

 

 

أما بعد:

فقد تحدّثنا في الدرسين السابقين عن بعض حقوق المسلم على أخيه المسلم، ومنها: إلقاء السلام ورده، وإجابة الدعوة، وفي هذا الدرس نكمل بعض تلك الحقوق:

 

الحق الثالث: يتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا عطس فحمد الله فسمته»، وفي الرواية الأخرى: «وتشميت العاطس»([2]).

 

والعطاس -أخي المسلم الكريم- من الأمور التي تعتري الناس، وأسبابه متعددة، ومما قيل فيها: إنها أبخرة في الرأس، فإذا عطس الإنسان خرجت تلك الأبخرة وخف الرأس بعد أن كان متأثرًا بها، وهو -بلا شك- نعمة من نعم الله تعالى على الإنسان، حيث يخفف عنه ما يؤثر عليه سلبًا، وهذه نعمة تستحق الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، ولذلك شرع في حق العاطس إذا عطس أن يحمد الله تعالى، فإذا حمد الله وسمعه من عنده، دعا له بالرحمة، حيث يقول: يرحمك الله، ثم يرد عليه العاطس بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حق العاطس -إذا حمد الله- أن يُشمّت، والتشميت: هو الدعاء بالرحمة، روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان»(

 

وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم»([4])، وبالكم أي: شأنكم.

وإذا لم يقل العاطس: (الحمد لله) فلا يشمت؛ لما روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمَّته، وعطست فلم تشمتني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله تعالى»(

وروى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي موسى الأشعري ا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه»([6]).

 

وإذا لم يحمد العاطس الله تعالى، فقد ذكر النووي رحمه الله أنه يستحب لمن عنده أن يذكره الحمد؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى.

وإذا قال العاطس لفظًا آخر غير حمد الله تعالى فلا يشمت.

والسنة للعاطس: أن يضع يده أو ثوبه أو نحوهما على فمه، وأن يخفض صوته، روى أبو داود والترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده -أو ثوبه- على فيه، وخفض -أو غض- بها صوته»(

وإذا تكرر العطاس فيشمت العاطس إلى حد ثلاث مرات، ثم يدعى له بعدها بالشفاء، كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر.

 

أيها المسلمون الكرام! الحق الرابع: هو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «وإذا استنصحك فانصح له».

 

والنصيحة: هي إرادة الخير للمنصوح له، وهي مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، قررها الله تعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد جاء النص فيها مباشرة، كما جاء بها النص ضمن أمور أخرى كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي جزء من الدعوة، وجزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونوجز ما يتعلق بالنصيحة من أحكام فيما يلي:

 

النصيحة لها فضل عظيم، ولصاحبها ثواب جزيل، فهي من أفضل ما يقدمه المؤمن للآخرين، ومن أحسن ما يتلفظ به، ومن أجمل ما يتحلى به، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33]، وقال سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110].

 

والنصيحة هي مهمة الأنبياء والمرسلين والمصلحين، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ[آل عمران: 104]، وقال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].

 

والنصيحة من أعظم الطاعات وأفضلها، روى مسلم عن أبي رقية تميم بن أوس الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» - قالها ثلاثًا- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»([8]).

 

بل بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصيحة، روى الشيخان عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم»( وفي رواية: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم».

 

ومن أهم ما ينبغي أن يلحظه الناصح: أن ينطلق في نصحه من إخلاص النصيحة لله عز وجل، فيطلب بها رضا الله تعالى، وما أعده للناصحين من أجر ومثوبة، وأن يريد الخير والفضل للمنصوح له؛ حتى يكون للنصيحة أثرها بإذن الله تعالى.

 

 

ومن آداب النصيحة المهمة:

أن تكون النصيحة سرًّا بين الناصح والمنصوح له، لا يطلع عليها أحد من الخلق؛ فهو أدعى للقبول، وأحرى بالإجابة، وأبعد عن الرياء والسمعة، وأعظم في الإخلاص، ولأن النصيحة إذا كانت علنية قد يترتب عليها من المفاسد أكثر مما أريد لها من المصالح؛ حيث إن المنصوح يسوؤه بيان عيوبه أمام الآخرين فيقوم بدفعها، ثم إن الشيطان قد يدخل إلى قلب الناصح فيعكر صفاء نيته وتجرده، فينظر إلى كلام الناس فيه، ثم إنها قد تؤدِّي إلى الجدال والمراء العقيم، ولا شك أن النصيحة في العلن فضيحة، فمن نصحك أمام الملأ فقد فضحك، وهذا خلاف مراد الشرع الذي جاء بستر العيوب وعدم كشفها.

 

أخي المسلم!

وإذا كان الإخلاص والستر من أهم آداب النصيحة، فلابد أيضًا لكي تؤتي النصيحة ثمارها أن تقدم للمنصوح له بأسلوب مناسب، وعرض جيد، وكلام لطيف، وتقديم طيب، وقول لين، فإن الطعام -مثلًا- لا يكون شهيًا إلا إذا كان في وعاء جيد ونظيف، وإذا كان غير ذلك فلا يُشتهى، حتى ولو كان طهيه جيدًا، وإن أسلوب النصيحة وعرضها هو وعاؤها الذي تقدم فيه، فليحرص الداعي والناصح والواعظ والمرشد على تحرِّي الأسلوب والعرض المناسبين؛ لعل الله تعالى أن ينفع بنصيحته، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159]، وقال سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام عند مخاطبتهما لفرعون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 44]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108]. ومن البصيرة: حسن العرض للمنصوح له وللمدعوين.

 

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «إن الله رفيق يحب الرفق»([10])، وقد كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمة على هذا الأصل العظيم في تعامله مع الناس، فقد قال صلى الله عليه وسلم للصحابة ي عندما أرادوا زجر الأعرابي الذي بال في المسجد: «لا تُزرِموه»(

(أي: لا تنهروه)، فلما قضى بوله دعاه بلطف وأخبره بأن المساجد لا تصلح لذلك، وإنما هي لقراءة القرآن والذكر والدعاء والصلاة.

 

فللدعاة والناصحين في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة، وفي منهجه وطريقته أسوة، ولا خير في طريق مخالف لطريقه ومنهج مضاد لمنهجه.

 

فليحرص كل مسلم على اقتفاء هذا الهدي النبوي الكريم، ومطالعة السيرة العطرة، يستلهم منها الدروس والعظات والعِبر، فيستفيد ويفيد.

 

أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الداعين المخلصين المتبعين لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المتمسكين بسنته، والمقتفين أثره، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.

 

وللحديث عن حقوق المسلم بقية إن شاء الله تعالى.


([2]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يُستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب (6223).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب ما يُستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب (6223).

([4]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب لا يُشمّت العاطس إذا لم يحمد الله (6225)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس (2991).

([6]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([1]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([8]) رواه البخاري في عدة مواضع، منها: في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة...» (57)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (197 – 198).

([1]) رواه البخاري في عدة مواضع، منها: في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة...» (57)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (197 – 198).

([10]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (6025)، ومسلم في الطهارة، باب وجوب غسل البول... (285).

([1]) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (6025)، ومسلم في الطهارة، باب وجوب غسل البول... (285).



بحث عن بحث