حقوق المسلم (3)

 

الحمد لله معز من أطاعه واتّقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، أحمده سبحانه لا إله غيره ولا رب لنا سواه، أمرنا بطاعته وطلب رضاه، ونهانا عن معصيته والابتعاد عن كل ما يوجب سخطه ويخالف تقواه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من أقام أمره، واجتنب نهيه، ودعا بدعوته واهتدى بهداه، إلى يوم الدِّين.

 

 

أما بعد:

فقد بدأنا الحديث في الدرس السابق عن حقوق المسلم على أخيه المسلم، وعرفنا أن أصل هذه الحقوق مبنيٌّ على أساس من الأخوة الدينية التي تبنى بها العلاقات بين المسلمين، وقد جاءت بها نصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذكرنا منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس»، وفي رواية لمسلم: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه»([2]).

وفي حديثنا عن الحق الأول (وهو السلام) بيّنا فضائله، وحكمه، وصيغته، وفي هذا الدرس نكمل ما يتعلق به، ثم ما يتيسر من الحقوق الأخرى.

فمن أحكام السلام: أنه يتلفظ به، بأن ينطق المسلّم بلفظ: (السلام عليكم) بما يُسمع المسلَّم عليه، والرد يكون كذلك، أما الإشارة باليد ونحوها فلا تعتبر سلامًا، وهذا يبين خطأ بعض الناس ممن يكتفي أحيانًا- بالسلام بالإشارة، وهو لا يكفي، فإذا كان المقام يقتضي الإشارة كمن يكون راكبًا في السيارة مثلًا- ويريد أن يسلم على من هو واقف؛ فلابد من النطق مع الإشارة.

 

ومن أحكام السلام: أن يسلم الصغير على الكبير، والماشي على الجالس، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يسلِّم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير»(

 

ومن السنة -أخي المسلم- إعادة السلام إذا افترق الشخصان ثم تقابلا بدخول أو خروج، أو حال بينهما حائل، ثم تقابلا، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر، ثم لقيه فليسلم عليه»([4]).

 

رواه أبو داود، قال ابن مفلح رحمه الله في الآداب الشرعية: [إسناده جيد].

 

وروى ابن السني عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتماشون، فإذا استقبلتهم شجرة أو أكمة تفرقوا يمينًا وشمالًا، وإذا التقوا من ورائها سلّم بعضهم على بعض».

 

ومن أحكام السلام: أنه إذا كان المسلّم في مذياع أو تلفاز، أو بُلِّغ إنسان بنقل سلام من آخر؛ فيجب الرد، وقد ذكر النووي رحمه الله أنه إذا جاء في الخطاب لفظ السلام، وقرأ السلام، أن يرد السلام، كما ذكر الواحدي وغيره أنه يجب على المكتوب إليه رَدُّ السلام إذا بلغه السلام، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة! هذا جبريل يقرأ عليك السلام»، قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته»(

 

ويحسن إذا نقل إنسان لآخر السلام، أن يرد عليه وعلى المبلِّغ، روى أبو داود رحمه الله عن غالب القطان عن رجل قال: حدثني أبي عن جدي، قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائته فأقرئه السلام، فأتيته، فقلت: إن أبي يقرئك السلام، فقال: «عليك وعلى أبيك السلام»([6]).

 

ومما ينبغي أن يحرص عليه المسلمون: إشاعة السلام وإظهاره وإعلانه بينهم، حتى يكون شعارًا ظاهرًا لهم لا تُخص به فئة دون أخرى، أو إنسان دون آخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام بينكم»(

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار»([8])

 

 

أخي المسلم!

ليُعلم أن ما ذُكر من أحكام السلام إنما هو بين المسلمين، أما الكافر فلا يُبدأ بالسلام، وإذا سلَّم فيرد عليه بمثل ما روى أنس رضي الله عنه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: «قولوا: وعليكم»( ، لكن إذا كان المكان فيه مسلمون وكفار، فيسلم عليهم ويقصد المسلمين، فقد روى البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، فسلّم عليهم»([10])

 

ونختم الكلام عن السلام بالتنبيه على أحوالٍ يُكره فيها السلام، مثل: أن يكون المسلم مشتغلًا ببول أو نحوه، سواء كان في الخلاء أو في دورات المياه، وكذا أن يكون مشتغلًا بصلاة أو أذان، وكذا إذا دخل المصلِّي والإمام يخطب الجمعة.

 

ويحسن بالداخل على مجلس علم أو في حال قراءة قرآن أن لا يسلم عليهم؛ لئلا يقطع ما هم فيه، كذا ذكره بعض أهل العلم. وما شابه هذه الأحوال فيدخل في حكمها.

 

أيها المسلم الكريم! كانت هذه بعض الوقفات مع أحكام السلام، أما المصافحة والمعانقة فلها أحكام أخرى، توجد في مظانها من كتب الفقه، وقد ورد الترغيب في المصافحة، وأن المتصافحين لا تفرق أكفهما حتى يغفر لهما، فعلى المسلم أن يتحرى أبواب الثواب، ويبادر إلى محاسن الآداب، تأليفًا لقلوب إخوانه، وتثقيلًا لميزانه، وصولًا إلى جنة الله ورضوانه.

 

الحق الثاني من حقوق المسلم: يتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا دعاك فأجبه».

 

وإجابة الدعوة مما يزيد في الألفة والمحبة بين المسلمين، ويزيد في الوصال والتقارب، ويطهر القلوب من الغلّ والظنون السيئة، ويصفي النفوس من أكدارها؛ ولذا حثّ الشارع عليها ورغب فيها، وجعلها حقًّا للمسلم على أخيه المسلم، بأن يلبي دعوته ويفرح معه في مناسباته، قريبًا كان أو جارًا أو صديقًا، فمشاركة المسلم لأخيه المسلم أفراحه تدخل السرور على قلبه، وتزيد في التآلف والتآخي، ويضاعف الله سبحانه وتعالى بها الأجر والمثوبة، روى مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمر بأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك»( ، وروى مسلم أيضًا عن عبد الله بن عمر بأنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب؛ عرسًا كان أو نحوه»([12]).

وروى الشيخان رحمهما الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: «شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه الأغنياء، ويترك المساكين، فمن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله»(

 

أما حكم إجابة الدعوة: فقد ذكر أهل العلم أن الإجابة مندوبة، إلا إذا كانت وليمة زواج فتجب، ما لم يكن هناك عذر لعدم الإجابة.

 

ومما ينبغي أن يُعلم في إجابة الدعوة: أن لا يمنعه من الإجابة كون الدّاعي بعيدًا منزله، أو أن يكون صائمًا، فعليه الإجابة ولو لم يأكل.

 

ومن ناحية أخرى: فإن إجابة الدعوة تقتضي من الداعي الذي أجيبت دعوته أنْ يقْدُرَ هذه الإجابة قَدْرهَا، ويُرحِّب بمدعويه، وأن يستقبلهم بالبشر والترحاب، وأن يشعرهم بفرحه وسروره وغبطته بحضورهم، وأن يدعو لهم على إجابتهم وتكلفهم المجيء إليه، فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله، كما ورد في الحديث.

 

 

أخي المسلم!

إن امتثالنا لهذا الهَدْي المبارك من شأنه أن يقوِّي أواصر الأخوة، ويصفي النفوس من أدرانها، ويزيد الألفة والمحبة بين قلوب المؤمنين، ويَسُلَّ السخيمة من الصدور.

 

فعلى المسلم الصادق أن يبادر إلى القيام بهذا الحق متى ما دعاه أخوه، إحياءً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم

 

أسأل الله تعالى أن يزيد من تآلف المسلمين وتوادهم وتقاربهم، وأن يطهر قلوبهم من كل سوء، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.

 

وللحديث عن حقوق المسلم على أخيه المسلم بقية إن شاء الله تعالى.


([2]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([1]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([1]) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3217)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها (2447).

([4]) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3217)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها (2447).

([6]) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54).

([1]) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54).

([8]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([1]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([1]) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة (1429)، ومسلم في كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي... (1432).

([10]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).

([12]) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة (1429)، ومسلم في كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي... (1432).

([1]) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب تسليم القليل على الكثير (6231)، ومسلم في كتاب السلام، باب تسليم الراكب على الماشي (2160).



بحث عن بحث