حقوق العلماء

 

الحمد لله القائل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].

أحمده سبحانه وأشكره، فهو الحكيم العليم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد القائل: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»([2]).

وعلى آله وأصحابه الذين تعلّموا وعلّموا، والتابعين ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدِّين.

 

 

أما بعد:

أخي المسلم الكريم! نقف في هذا الدرس مع حق عظيم، تساهل فيه كثير منا، أو لم يلق له بالًا، أو قصّر فيه، هذا الحق هو حق صفوة مختارة، نذرت نفسها وجهودها لخدمة البلاد والعباد، لا يستغني عنهم مسلم في كثير من أموره، فضلًا عن المجتمع بأسره، هذه الصفوة المختارة لا يعرف قيمتهم إلا من يُقدِّر ما يحملون. فلعلك -أخي المسلم- عرفتهم من هذا الوصف الموجز، إنهم العلماء وأهل العلم، أعني العلماء الشرعيين الموثوقين الربانيين، السائرين على منهج السلف الصالح، منهج أهل السنة والجماعة، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، فكل من هذين الصنفين له حقوقه الواجبة على الناس.

 

وقبل الولوج في بيان هذه الحقوق نبين بإيجاز موقف الإسلام من العلم، وما أعده الله سبحانه وتعالى للعلم وأهله، فنقول:

 

لقد جاء الله تعالى بالإسلام والأمم غارقة في ظلام الجهل، فكان أول ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق: 1- 5]، فكانت أول إضاءة في هذا الظلام الحالك، ثم توالى نزول الآيات الكريمات المؤذنة بأن هذا الدِّين دين علم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2].

 

فالدِّين كله مبني على العلم؛ العلم بالله تعالى وبدينه، والعلم بأمره ونهيه، فلا يعبد الله إلا بالعلم، ولا يمكن أن تستقيم الأمة على المنهاج الصحيح إلا بالعلم، ومن هنا كانت للعلم مكانة لا يوازيها شيء، ولذلك قال علي بن أبي طالب ا: «كفى بالعلم شرفًا أن يدّعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًّا أن يتبرأ منه من هو فيه».

 

ولبيان شيء من شرفه ورفعة أهله بيَّن الله سبحانه وتعالى أن العلم سبب للرفعة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11].

 

والمعنى: أن الله يرفع المؤمن على غيره، ثم خص العالم بمزيد رفعة على غيره من المؤمنين.

 

والعلم ليس له حد محدود؛ بل أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة منه، فقال سبحانه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن هذه الآية: «إنها واضحة الدلالة على فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم» ا.ه.

 

والعلم طريق للجنة، روى مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل رضي الله عنه لله به طريقًا إلى الجنة»(

 

والعلم هو ميراث الأنبياء، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وقد مَرَّ بنا في أول الدرس حديث: «إن العلماء ورثة الأنبياء...»، وروى الطبراني بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مرّ بسوق المدينة فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم هاهنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعًا، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه، فلم نر فيه شيئًا يقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد غ»([4]).

 

وقد وصف الله تعالى أهل العلم بالخشية له، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، فالعلم يُورِثُ خشية الله تعالى، وخوفه، ورجاءه، ومحبته.

 

والعالم والمتعلم صاحبا نور ووضاءة في الدنيا والآخرة، فقد دعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلّغه كما سمع، فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع»(

 

([1]) رواه الترمذي في كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع (2662)، وأحمد في المسند (1/437)، وأبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3660).


([2]) رواه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699).

([1]) رواه مسلم في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699).

([4]) رواه الترمذي في كتاب العلم، باب الحث على تبليغ السماع (2662)، وأحمد في المسند (1/437)، وأبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3660).



بحث عن بحث