حقوق الأقارب والأرحام

 

الحمد لله الذي خلق فسوّى، وقدَّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره وهو أهل الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، النبي المصطفى والرسول المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته، ومن سار على نهجه واقتفى.

 

 

أما بعد:

فقد تحدّثنا في الدرس السابق عن حق عظيم من أعظم الحقوق الواجبة على الإنسان، جعل الله هذا الحق قرين حقه سبحانه وتعالى، ذلكم هو ما يجب للوالدين من حقوق على الأولاد، وعرفنا مجمل هذه الحقوق، ومنها: برهما وطاعتهما، والتلطف في الخطاب معهما، والتواضع لهما، وهضم حق النفس أمامهما، والدعاء والاستغفار لهما، ودعوتهما وتعليمهما، ومصادقتهما ومصاحبتهما، وقضاء حوائجهما، وتلبية متطلباتهما، والأدب في خدمتهما، والمشي معهما أو الجلوس أو الكلام، وإدخال السرور عليهما بكل ما يسعدهما من الأقوال والأعمال والأموال وغيرها، وأن يصل أقاربهما وأصحابهما، في حياتهما وبعد مماتهما، وتنفيذ وصيتهما، وإجراء الصدقة عنهما، وغير ذلك من الحقوق.

 

وفي هذا الدرس نتحدث عن حق عظيم آخر، عظَّمه الله سبحانه وتعالى، وجعله مبدأً من المبادئ الإسلامية الأولى، والأصول الكبرى، التي جاء بها دين الإسلام منذ الأيام الأولى التي صدع فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بالدعوة، يشهد لذلك حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل، إذ سأل أبا سفيان: «فماذا يأمركم به نبيكم؟ فأجابه بقوله: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة» متفق عليه([ii]).

 

أخي المسلم الكريم! إن تقديم صلة الرحم على غيرها، وجعلها من أهم ما يأمر به ديننا الحنيف، إن ذلك ليوحي بما لها من منزلة عظيمة، ومكانة كبيرة، لذا فقد كثرت النصوص الشرعية بشأن الرحم؛ تحض على صلتها، وتحذر من قطيعتها، قال تعالى: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ [الروم: 38]، وقال سبحانه في شأن الوصل، وعدِّه من صفات أولي الألباب، أهل الجنة: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [الرعد: 21]، وقال تعالى في صفات الصنف الآخر: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ [الرعد: 25] وقد توعدهم بأنَّ ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[الرعد: 25].

 

وروى البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أي: يزاد في أجله-، فلْيَصِلْ رحمه»([iv]).

 

ولعظمة هذا الدين، وعظم حق الرحم، يسمو الإسلام العظيم في سماحته حتى يوصي بصلة الرحم ولو كان الأرحام غير مسلمين، فعن عبد الله بن عمرو ب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سر يقول: «إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما ولييّ الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبُلُّها ببلالها»([vi]).

 

ولمّا سألت أسماءُ رضي الله عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن صلة أمها المشركة، قال صلى الله عليه وسلم: «نعم، صلي أمك»(


([ii]) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه (832).

([iv]) رواه البخاري في تفسير سورة محمد، باب ﴿﴾ (4830)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم (2554).

([vi]) رواه البخاري (5/228) برقم (2612) في الهبة، باب هدية ما يُكره لبسها، ومسلم (3/1638) برقم (2068) في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب.

([vii]) رواه مسلم برقم (1003) في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين.. ولو كانوا مشركين.



بحث عن بحث