حق الوالدين(2)

 

الحمد لله مستحق الحمد وأهله، يجازي البارين ببرهم من رحمته وفضله، ويجازي العاقين فيعاقبهم إن شاء بحكمته وعدله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد أفضل رسله وخيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وسار على هديه.

 

 

أما بعد:

فقد تحدّثنا في الدرس السابق عن حق من أعظم الحقوق على الإنسان، ذلكم هو حق الوالدين، فذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قرن حقهما بحقه في مواضع من كتابه، وذكر جزءًا من حقوقهما في مواضع أخرى، وبينا بعض تلك الحقوق، وذكرنا منها: البر بهما في القول والفعل والمال، والبر بالقول شامل للكلام اللين، والمخاطبة اللطيفة، واختيار الألفاظ الحسنة في محادثتهما، والبرُّ بالفعل بالإحسان إليهما وخدمتهما، والقيام بحوائجهما، والبرُّ بالمال ببذل المال لهما بقدر الاستطاعة، طيبةً به نفسك، منشرحًا به صدرك، غير مُتبع له بمنة أو أذى.

 

 

وذكرنا أن من البر بهما:

الدعاء لهما، سواء كانا موجودين على قيد الحياة، أو قد توفاهما الله عز وجل، ولا شك أن الدعاء من أعظم البر، فمن دلائل صلاح الذرية: دعاؤهم لوالديهم.

 

ومن حقهما أيضًا: نصحهما إذا اقتضى الأمر ذلك بكل لطف ومودة، وبأسلوب حسن ومناسب.

 

أيها المسلم الكريم! وإنّ من حقهما عليك: مصاحبتهما والتودد لهما، وإشعارهما بالأنس بهما، وإدخال السرور على قلبيهما، فضلًا عن زيارتهما -إن لم تكن معهما في المنزل- باستمرار، وتكرارها كلما رغبا في ذلك، والتحدُّث معهما بالهاتف -إن كنت بعيدًا عنهما- ومراسلتهما، وإظهار الاهتمام بهما، وتنفيذ رغباتهما ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ومراعاة نفسيتهما.

 

وأن تقوم بهذه الأمور نحوهما وأنت تشعرهما بارتياحك واطمئنانك، وعدم تأففك وتضجرك؛ بل وتشعر أن المنّة في قبولهما ذلك منك لهما.

 

وكل هذه الأشياء يشملها لفظ الإحسان والمصاحبة، الوارد في الآيات الكثيرة، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...﴾ [النساء: 36]، وقال سبحانه: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الأنعام: 151]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[لقمان: 13 14].

 

 

وهذا البر ينبغي أن يشمل جميع الآباء والأمهات، حتى الأبوين الكافرين، فلعل هذا البر وتلك المعاملة الطيبة تكون سببًا في هدايتهما وإنقاذهما من الكفر والضلال، ولا شك أن هذا من أعظم البر -أعني هدايتهما على يديك وبسببك- ولذا قال تعالى في بقية الآية: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 15].

 

 

أخي المسلم!

ويتأكد جميع ما ذكر من الحقوق في حال كبرهما وضعفهما، وفي حال مرضهما، ولذلك خص الله تعالى وضع الكبر بالذكر في قوله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا [الإسراء: 23 25].

 

وما أحسن قول القائل في وصف ذلك الإنسان غير الموفق الذي تنكّر لوالديه وتكبّر عليهما: «إن العار والشنار والويل والثبور أن يُفجأ الوالدان - أو أحدهما- بالتنكر للجميل، كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأُعجب بشبابه وقوته وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، وتكبر بمنصبه وماله، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما؛ بل ربما -والعياذ بالله!- لطم بكف، أو رفس برجل! يريدان حياته ويبتهجان بها، ويتمنى موتهما، ويفرح بفراقهما، وكأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين! تئن لهما الفضيلة وتبكي من أجلهما المروءة». انتهى كلامه وفقه الله وسدّده.

 

 

أخي المسلم!

ومن أعظم حقوقهما بعد موتهما: إنفاذ وصيتهما دون تأخير، وإجراء صدقة يجري لهما ثوابها بعد وفاتهما، والدعاء والإلحاح فيه لهما، وصلة الرحم التي جاءتك عن طريقهما، وزيارة وإكرام أصدقائهما وبقاء الصلة معهم، فكل هذه الأمور مقبولة عند الله تعالى مع الإخلاص والصدق والتجرد، روى أبو داود وغيره: أن رجلًا من بني سلمة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما -يعني الدعاء لهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما -يعني وصيتهما- من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما»(

 

 

أخي المسلم!

بر الوالدين والقيام بحقوقهما من أعظم الأعمال الصالحة التي ترجى ثمارها في الدنيا والآخرة، وعقوق الوالدين من أعظم الكبائر التي تُرى نتائجها الوخيمة في الدنيا والآخرة.

 

فمن ثمرات بر الوالدين: قبول الأعمال الصالحة، وتكفير السيئات، قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ[الأحقاف: 15 16].


([i]) رواه الإمام أحمد (3/497 – 498)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في برّ الوالدين (5142).



بحث عن بحث