حق الرسول صلى الله عليه وسلم

 

 

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كله وكفى بالله شهيدًا، أحمده وأشكره على نعمه وأسأله من آلائه وفضله مزيدًا، وأُصلي وأُسلِّم على نبينا محمد خير رسله، وصفوته من خلقه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فقد تحدّثنا في الدروس السابقة عن حق الله تعالى على خلقه، الذي هو أهم الحقوق وأصلها الذي تتفرع منه سائر الحقوق.

 

وفي هذا الدرس نقف مع حق عظيم آخر، واجب علينا فهمُه ومعرفته والعمل بما يقتضيه، ذلكم هو حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله تعالى إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح للأُمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، قام صلوات الله وسلامه عليه بما بعثه الله به، فبذل جهده، وسخّر وقته لتبليغ رسالة ربه، فقام بها خير قيام، حتى أنزل الله تعالى عليه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3].

 

ولهذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عظيم على أُمته، يجب عليهم القيامُ به وتمثُّله في واقع حياتهم، فهو المرشد لهم والمنقذ لهم -بإذن الله- من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، والنفوس جُبلت على حب من أحسن إليها، وليس يوجد إحسان -بعد فضل الله- أعظم من إحسانه صلى الله عليه وسلم، الذي أرشد الأمة إلى طريق الرحمة والجنة، وحذرهم طرق الغواية والضلالة والنار.

 

ويُمكن إيجاز حقوقه صلى الله عليه وسلم بجملة أمور:

الحق الأول: الإيمان به، وذلك بأنه صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، أرسله الله تعالى للناس كافة بشيرًا ونذير، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن براثن الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن جور الأديان والملل إلى عدل الإسلام، ومن الشقاوة إلى السعادة، ومن الضلالة إلى الهدى، قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144]، وقال سبحانه: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[الأحزاب: 40]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[المائدة: 67]، وقال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى: 52]، وقال جل شأنه: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا [الإسراء: 93].

 

فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن نبينا محمد بن عبد الله رسولٌ من عند الله، وأنه يجب الإيمان بذلك، وهذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله.

 

والإيمان بأنه رسول من عند الله حق واجب؛ بل ركن من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به، قال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة: 285].

الحق الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم محبةً تفوق محبتنا لأنفسنا، فضلًا عن آبائنا وأمهاتنا وأولادنا، محبة يشعر بها المرء المسلم في قلبه، ويُرى عليه أثرها في سلوكه وأعماله، روى البخاري وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»([ii]).

 

وهذه المنزلة من المحبة لا يبلغها إلَّا من تمكن التصديق من قلبه، كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لإنقاذ هذه الأمة من المهالك في الدنيا والآخرة! والنفوس بطبيعتها مجبولة على حب من أحسن إليها، فكيف إذا كان هذا الإحسان نقلًا من الجحيم إلى النعيم؟ فلا شك أن المحبة تكون أعظم وأكبر وأجلّ.

 

الحق الثالث: ومن حقه صلى الله عليه وسلم على أمته-وهو ثمرة الحقوق العملية-: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، فهو المبلغ عن ربه، وهو المبعوث بالرسالة للعالمين، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ[النساء: 59]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7]، وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال: 24]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ[الأنفال: 20]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33]، وقال سبحانه: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]، وقال جلا وعلا: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ[النور: 54].

 

وبين الله سبحانه أن ثمرة هذه الطاعة عظيمة وكبيرة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 71]، وقال جل وعلا: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[النساء: 13].

 

فهذه الآيات وأمثالها تبين هذا الحق العظيم، الذي هو: طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم فيما بلَّغه عن ربه عز وجل، فإن طاعته طاعة لله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»([iv])، وجاء في ذم تاركها ما رواه الترمذي بسند حسَّنه الحافظ ابن حجر :، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ»([vi]).

 

وقد لاقت السنة النبوية حملات شرسة من أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا، أو من أبناء المسلمين المتأثرين بأفكار أعداء الإسلام، فنشرها والدفاع عنها دفاع عنه صلى الله عليه وسلم، وذب عن شريعته المطهرة، وهذا من آكد الحقوق وأعظمها، وبخاصة في مثل الأوقات التي اختلط فيها الصحيح بالسقيم، والحق بالباطل.

 

الحق السابع: وهو من مستلزمات حقوقه صلى الله عليه وسلم: محبة أصحابه ي وتوقيرهم، فهم حملة الدين عنه، وهم خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين، فمحبتهم واجبة، واحترامهم وتقديرهم واجب، والذبّ عنهم واجب، ولا يجوز لأحد أن يذكرهم بسب أو طعن، أو ذم أو عيب أو نقص، روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإنّ أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه»([viii])».

 

وكذلك محبة آل بيته الذين اتبعوه وآمنوا به، واحترامهم وتوقيرهم، وحفظ حقوقهم التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث.

 

 

أخي المسلم!

إن بيان حقه صلى الله عليه وسلم وسيلة إلى استشعار ما قدمه صلى الله عليه وسلم للأمة من الخير العظيم، فجزاه الله سبحانه وتعالى خير ما يجزي نبيًّا عن أمته.

 

أسأل الله تعالى أن يحشرنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وأن يجعلنا ممن يحبون رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبتنا لأنفسنا ووالدينا وأولادنا، وأن يرزقنا صحبته في الجنة، والورود على حوضه صلى الله عليه وسلم، إنه سميع مجيب، وهو المستعان.



([ii]) رواه البخاري في كتاب الأيمان، باب كيف كانت يمين رسول الله غ؟ (6632).

([iv]) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (408)، ورواه أحمد في مسنده (2/372).

([vi]) رواه الترمذي -واللفظ له- في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2662)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود في كتاب العلم، باب فضل نشر العلم (3660)، وابن ماجه في المقدمة، باب من بلَّغ علمًا (232).

([viii]) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3651)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة (2533).



بحث عن بحث